13/03/2010

 يتواصل الإنسان مع محيطه من خلال تجربتين إدراكيتين يعيشهما، الأولى تتجلى بإدراك داخلي يتعاطى فيها مع الخارج من خلال التجربة الحسية والممزوجة بواقع تأثر مع مرور الزمن بالتركيبة الجماعية وبالمؤثرات المحيطية وبدورها أنشأت هذه التجربة الأولى تجربة داخلية مبنية على قواعد تخصها، نستطيع تلقيبها بالتجربة الداخلية الجماعية والمتمثلة بثقافة الجماعة؛ أما التجربة الخارجية فهي مجموعة ثقافات جماعية عديدة تراكمت مع الزمن واكتسبت خصائص عدة من افراد الجماعات المختلفة والتي (التجربة الخارجية) تطورت وتغيرت مع الزمن من خلال الملاحظة والدراسة لظواهر عديدة طبيعية.

وبدوره ينقسم الإدراك الداخلي إلى تجارب إدراكية فردية داخل إدراك جماعي، لينشأ تبادل ما بين الافراد والكتلة الجماعية. ففي بعض الأحيان تغني التجارب الادراكية الفردية الجماعة كما تضفي عليها قوانيناً ومعاييراً جديدة، إلا أنها في أحيان أخرى تخلق هذه التجارب بعض الأثار النفسية التي تؤثر سلباً على مجتمعاتها في حال تغلغلها بشكل لاواع في الأفراد لتصبح أفكاراً وأعمالاً تلقائية غير قادرة على اكتساب صفات أخرى. كما ان جمودها يسجن الفرد ضمن معطيات ثابتة متشنجة عاجزة عن ابداء أية مرونة، مثل الأديان المتشبثة بأخلاقيات بدائية لم تعد تصلح لعصرنا الحالي مع استحالة استمرارها بشكلها الراهن والمناقض للعلم والمعرفة.

لكن قبل التطرق إلى البعد الديني عند الأفراد والمجتمعات، أرغب في الكلام عن التجارب الإدراكية الداخلية للأفراد  والصور العقلية الواهية التي سيطرت على أفرادها ودعونا نخص بالتحديد الرسل والأنبياء وعلاقة النبوة مع المرتفعات العالية (الصعود الى أعلى الجبل) والصيام، كموسى الذي صعد إلى الجبل للحصول على وصاياه العشرة. ولتوضيح هذه الحالة، علينا ربطها مع حالة الهايبوكسيميا (نقص التأكسج) فنرى أن المرتفعات العالية  تؤثر في نقصان كمية الأوكسجين  في الدم، والتي تشكل عاملاً اساسياً في تغيير نشاط  الفص الصدغي الدماغي ومن العوامل المؤثرة لحالة الهايبوكسيميا هي: المرتفعات العالية، الصعود السريع، النشاط الجسدي المكثف…

عند دراسة بعض حالات  الهلوسة والهذيان لبعض متسلقي الجبال  تبين حدوث أعراض جانبية ناتجة عن العلو المرتفع، نستطيع فهم ضرورة الصعود  إلى مرتفعات عالية لدى الأفراد الراغبين في بدء الاتصال مع الله. ولا ننسى أيضاً ان الصيام ضروري  قبل الخوض في هذه التجربة، و لهذا نرى على سبيل المثال صيام موسى  عند بدء احتكاكه بالإله، فتجويع النفس يساهم  إلى حد بعيد في تغيير النشاط الدماغي ليخلق عند الإنسان حالة من الهذيان، لهذا نلاحظ  ان فرض الصيام وتجويع النفس تواجدا عند كثير من القبائل الهندية وغيرها  بهدف الخوض في تجربة الإله مثلما صنفها برسينجر، والتي تغيرت مع الأيام إلى تجويع جزئي (الصيام) فأصبحت فرضاً من الفروض الإجبارية لمؤمني الديانات الأخرى.

ميز برسينجر تجربة الإله عن مفهوم الإله، فأعتبر ان الأولى تأتي من تجارب إدراكية داخلية فردية  تعتري الأفراد لتنتابهم مشاعر فياضة وإحساس داخلي بالمعرفة مع امكانية سماع صوت داخلي ينسب إلى الإله..

وإذا تمعنا قليلاً في ظواهر الإدراك الداخلي والمتجلية بتصورات وتخيلات إنسانية تقمصت في صور عدة؛ منها الطاقة الكونية، أو الوعي الكوني، أو الإله الخالق… نجدها ناجمة عن تغيير في النشاط الكهربائي الدماغي. هذه النشاطات تطرأ على الانسان اما في  مرحلة النضوج، أو في حالة ورطة شخصية، أو عند حالة التعب مع  تداخلها في عدة ظروف نفسية منوعة تهيئ انتاج أو خلق معاني مكثفة من المشاعر الدافئة كالامتلاء و لعمق النفسي، ونجدها أشبه بحالات الهلوسة أو الأخطاء الإدراكية المسجلة في الدماغ من دون وجود أية علاقة مترابطة ما بين هذه الصور الهذيانية وبين الواقع. فالهلوسات هي تمثيلات عقلية واعية خالية أو مفرغة من الغرض الخارجي، أي ان هذه الصور ما هي إلا إدراك داخلي لا ينطبق على واقع خارجي، مثلها مثل تجربة الإله الذي يدركه البعض من خلال داخلهم من دون الاستناد إلى واقع خارجي معين.

مما لا شك فيه أن الإدراك الداخلي للإله عند البعض قد تم بشكل لاإرادي، فهؤلاء تعرضوا إلى ظروف نفسية داخلية تمازجت مع إرادة صلبة للخروج من واقعها الداخلي.

نعود قليلاً إلى الرسل والانبياء ولعملية ادعاء الوحي والإحساس الداخلي بها والانجراف إلى فخ الإدراك الداخلي والإصابة بالهذيان والهلوسات طويلة المدى والمقترنة بإرادة ورغبة شديدة منهم بالتفرد عن الآخرين من دون تخطيط مسبق من ناحيتهم، أو بمعنى اخر من دون وجود مخطط واعي مسبق. إلا ان امتلاكهم لحس قوي جعلهم أكثر فطنة لانتهاز الفرص المناسبة، ولشرح عملية الإحساس المسبقة والتي تسمى أحياناً ب(الحاسة السادسة) وهي عبارة عن تراكم تجاربي فردي وجماعي مسجل في الذاكرة الطويلة والتي تساعدنا في استباق الأحداث أو توقعها. كما ان الأرضية الخصبة بالآلهة والاعجازات الاسطورية آنذاك مهدت لبعض الأفراد التميز والإبداع في اضافة أساطير جديدة.

لنتخيل لو أتانا أحداً منهم في عصرنا الحالي، نستطيع الجزم بما سيؤول إليه وضعه فمأواه لن يكون إلا مشفى الأمراض العصبية أو زنزانة منعزلة وذلك لشدة خطورة أفكاره على المجتمعات والأفراد.

المصدر : هذيان الرسل

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5