14/05/2010

 حالة من الشرود تغزو عقلي، فينتج عنها عطل دماغي عاجز عن القيام بأي عمل أو تركيز، أبحث جاهدة في ترتيب معطياته لتبوء محاولاتي بالفشل قبل بدئها، أفكر للحظات قليلة عن الداء والدواء، فلا أجد إلا رغبة جامحة بالتشرد، ليتوه عقلي في بعض الأزقة الأنترنيتية، عله يجد ما يبحث عنه.

أقرر بدء التجوال في المواقع المتبعثرة على أرصفة الأنترنيت، فلربما أجد ما يشبع ظمأي، فذهني محتاج إلى كوب من مشروب فكري حر. أنتقل من موقع عربي إلى آخر، فلا يصيبني إلا الاحباط والعزلة، فجميع مشروباتهم الفكرية مغشوشة بسموم تهدف للقضاء على الفكر والجسد في آن واحد. أصابتني حالة من الغثيان الذهني لأقرر العودة إلى واقعي الملموس، إلا انني في آخر محطة من التنقل الباحث عن بعض قطرات الإنتعاش قبل الرحيل، أجد حانتي المليئة بالأفكار الشابة الهادفة… رابطة شبابية مغربية، تملك من الحماس والجرأة كي تستطيع اجتذاب كل حالم بالتغيير.

تطالب هذه الجمعية “شباب من أجل فصل الدين عن التعليم”  بإلغاء مادة الدين في المدارس مع عقلنة التعليم وتشجيع البحث العلمي، تأمل في تنظيف المناهج الدراسية من التعاليم الدينية لإنشاء ثقافة احترام الاختلافات الفكرية والعقائدية بين الأفراد.

 رعشة ذهنية تغزو عقلي لأنتقل بلمسات خفيفة وسريعة لتصفح صفحات موقعهم، فأشعر باللذة الفكرية. أتحسس عباراتهم وأفكارهم وكأنني ألمس جسداً استكشفه للمرة الأولى، لذة تساوي لذة الجسد عند اقتراب ذروة النشوة.

أستيقظ من أفكاري لأنفض أحاسيسي جانباً، ولأتطرق إلى هذا الموضوع عن طريق التجارب العصبية التي قامت بدراسة أثر الصور العقلية اللاواعية على سلوكيات الأفراد.

 وضح لنا علم الأعصاب آلية انتقال الصور العقلية المكتسبة من الخارج والنائمة في لاوعينا إلى الوعي عند إتاحة عوامل معينة لها للظهور، خصوصاً عند تواجد سلسلة من الأحداث والتجارب المترابطة فيما بينها. فإذا تمعنا في الصور العقلية الموجودة في الكتب الدينية، نراها مكونة من عناصر عدوانية مدموجة بصور القتل والعقاب. فمثلاً نجد (في العهد القديم) صورة الذبح (عندما أراد إبراهيم ذبح ابنه فداءً للإله) لنجد أن هذه الصورة قد ترسخت في لاوعي المؤمنين الابراهيميين، فلا يجدون بها أي ضرر أو عنف مادامت عملية الفداء مقدمة للإله، حيث لا يرون بها أية جريمة مرتكبة من قبل إبراهيم تجاه ابنه (بغض النظر عن صحة هذه الأسطورة أو عدمها)، فالمؤمن يجد في هذه الصورة كرماً إلهياً واخلاصاً بشرياً للإله. بينما لو تمعنا بشكل أدق في صورة الفداء والذبح، وتحررنا من مفهمومها المنغرس في عقولنا، سنراها تعبر عن جريمة بشعة ترتكب بحق البراءة والطفولة.

هذه الصور المحللة لقتل الآخر مهما كانت مكانته لإرضاء الإله تدفعنا إلى ممارسة العنف والكراهية لأي فرد لا يتوافق معنا، فليس من الغريب أن نجد المجاهدين في سبيل الله يستخدمون نفس الأسلوب الإبراهيمي لعقاب من يختلف عنهم.

صورة عدوانية متأصلة في أعماق أي مؤمن، جاهزة للظهور والإعلان عن نفسها عند وجود أية فرصة نفسية وخارجية ملائمة لها. هذ النظرة التي لا توافق أبداً نظرتنا الإنسانية للأمور في عصرنا الحالي، فخطورتها تكمن على صعيدين: جماعياً، كما هو الحال عند بعض الجماعات السلفية، أو فردياً كما حصل لنجار عام الف تسعمائة وسبعة وتسعون، عند استيقاظه من النوم ليركض إلى غرفة طفله الرضيع ذو الأربعة أشهر، لينهال ضرباً بالمطرقة على رأسه ظناً منه بسماعه صوت الإله المطالب له بإعادة عملية الفداء كما حصل مع إبراهيم.

قام اختصاصي الأعصاب برسينجر بدراسة بعض الحالات الهجومية الناتجة عن صور عقلية باطنية، ليجد أن الصور الدينية المليئة بالعقاب والموت، والتي تسيطر على عقلية المؤمن من خلال صوت داخلي واه ظناً منه بأنه صوت إله آت من ماوراء السماوات والنجوم، حيث فسر برسينجر الصور الدينية على انها انعكاس لتجارب سمعية، بصرية، حركية وشمية صادرة عن الفص الصدغي، فرسوخها يقترن بسرعة ارسال الفص الدماغي للتجارب إلى باقي أجزاء الدماغ.

هذه الصور المسجلة والمختزنة في الذاكرة تتداخل مع “الأنا” الفردية لتشكل هوة ما بين الإدراك الداخلي والواقع الخارجي، ليبدأ العجز عن فهم كل ما يتجاوز الصور الدفينة في الأعماق. تتكمن الخطورة القصوى لهذه الحالات عند اجتياحها العقول بشكل جماعي، ليصبح الخطاب التهديدي والتعنيفي أفضل أسلوب لمعاملة الآخر إن كان على مستوى الدولة أو المدرسة أو الأسرة. فليس من العجب أبداً أن نرى ضيق الأفق عند الأفراد والجماعات التي تتأصل في عقولها الصور العدوانية، فلا خطاب ولا سلوكيات إلا ضمن خط واحد لا يترنح ولا يتحول.

إنها ثقافة غسل الأدمغة لتلقين الاستبداد على كافة الأصعدة. من هنا لا يسعني إلا أن أضم صوتي إلى صوت رابطة “شباب من أجل فصل الدين عن التعليم” آملة أن تكتسب أصواتاً جديدة وانتشاراً أوسع في كافة المجتمعات العربية والدينية على حد سواء، لأردد شعارها “لا تلوني، دعني أختار بنفسي”.

المصدر : عدوانية الصور الابراهيمية

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5