27/04/2012

عانت الانتفاضة السورية منذ بدء اندلاعها في وجه نظامها الاستبدادي من كسب استمالة ما نسميه بالأقليات الإثنية والطائفية الدينية وفئات أخرى ما زالت متخوفة من فقدان بعض حرياتها الفردية التي تتمتع بها في ظل النظام الأسدي في حال مجيئ الإسلاميين إلى الحكم. يعود تخوف هذه الفئات وترددها للانضمام إلى الانتفاضة لأسباب عديدة منها: فقدان الأمل عند الكثير من السوريين بحصول أي تغيير اجتماعي وثقافي، وخصوصاً أن الردة الدينية اكتسبت أرضية لا بأس بها، فاستطاعت أن تتغلغل في نسيج المجتمع السوري، فالرقابة الممارسة على الأفراد سهلت للدين المتشدد بالتسلل إليهم ليكون ملجأهم الأخير. كما كانت لآليات القمع التي مورست عليهم سبباً للأزمات النفسية التي يعاني منها الأفراد وذلك لعجزهم عن تحقيق أي شعور بالاكتفاء لتحقيق الذات في العثور على مخرج ما لتحسين الشروط الحياتية. وتحت ضغط الاحباطات النفسية التي يعشيها الفرد على كل المستويات، نراه يلجأ إلى الدين لاستخدامه كطاقة نفسية محفزة للاستمرار ورغبة منه في إيجاد تعويض ما فقده على الأرض حتى ولو كان خيالياً لا يمت للواقع بصلة. وهذا ما حصل في كثير من المجتمعات القابعة تحت سلطات توتاليتارية ذات توجه أحادي .

ولا شك أن الثقافة الاجتماعية المؤسسة على الإيمان بحتمية القضاء و القدر تأخذ مفعولها بشكل أكبر على الأفراد القابعين تحت سلطة الاستبداد لتساهم هي أيضاً في رقابة ذهنية ومعرفية وذاتية. مما يولد عنه استسلام سلبي للواقع ليقود الفرد أو المجتمع نحو التخلي عن مبدأ الحراك من أجل التغيير واللجوء إلى الغيبيات كحالة تعويض نفسية. بالطبع، هناك العديد من العوامل الأخرى التي ساهمت للجوء الفرد السوري إلى الدين وخصوصاً انه عانى ومازال يعاني من شعور بالعزلة. وربما هذا ما يفسر لنا انجراف المظاهرات الشعبية لاعطاء صبغة إسلامية عليها في الداخل السوري و الخارج. ويعود ذلك أولاً إلى إحساس الشارع السوري المنتفض بتخلي المجتمع الدولي عنه وتركه فريسة وحشية النظام السوري. وثانياً لاستغلال الإسلاميين الوضع النفسي للسوريين للتغلغل شيئاً فشيئاً وبشكل تنظيمي في الشارع السوري، كما أن سيطرة الإسلاميين على توزيع المؤن والمساعدات الإنسانية ساهمت بشكل كبير في ظهورهم المكثف في الساحات والشوارع وبَدءت ملامح احتكارهم بالظهور على هذه الانتفاضة.

يتسارع الإسلاميون في سوريا للانقضاض على الحراك الشعبي والإيحاء بأنهم الأقوى والأكثر انتشاراً بين الفئات السورية متعمدين على الأرضية الدينية والمحافظة لبعض الفئات. ومستغلين اختلاف الطوائف بين النظام الحاكم وبين ما يسمونه الفئة الأكثرية، داعمين بذلك شعور التمييز الطائفي ومؤججين لمشاعر عدوانية وتنافرية بين الفئات لكسب شريحة أوسع في المجتمع السوري. كما يقوم الإسلاميون بالارتكاز على مبدأ “الأغلبية الأقوى” التي يحق لها تسيير المجتمع على أهوائها ومعاييرها. وهنا يحق لنا مراجعة ما يسمونه الأغلبية والأقلية التي تعتمد، حسب منظورهم، انشاء جبهة واحدة مقابل الكتل الجماعية الأخرى.

يتألف المجتمع السوري من جماعات إثنية غير عربية يمكنها أن تتعدى 15 بالمئة ومن جماعات دينية وطائفية مختلفة تقارب ال20 بالمئة أو أكثر*. أما بالنسبة للشريحة الكبرى وهي السنة العرب، فنلاحظ وجود اختلاف كبير بين جماعاتها، فلا يمكننا وضع المسلم الصوفي مع الإسلامي السلفي ولا الاخواني المسلم. كما أن الإسلاميين لا ينتمون إلى ذات التيار، فالإسلامي السلفي الجهادي يختلف عن ذاك السلفي غير الجهادي وعن ذاك الإخواني. كما نجد أن التفاسير المختلفة للقرآن ووجود مدارس متعددة ومتنوعة تجعل منهم كتلاً متعددة داخل الجماعة الواحدة، مختلفين بذلك عن بعضهم البعض حتى ولو مارسوا بعض الطقوس الدينية الواحدة. إضافة إلى ذلك، علينا ألا ننسى أن نسبة المسلمين العلمانيين في سوريا تشكل نسبة لا بأس بها. لهذا أعتقد ان علينا القيام بإجراء تعديل على مفهوم النسب والجبهات التي يمكن خلقها في سوريا، لقلب المعادلة السياسية وترجيح كفة العلمانيين والفئات الداعمة لها على حساب كفة الإسلاميين، ليتضح لنا أن الإسلاميين لا يشكلون إلا أقلية ضئيلة لا يمكن أن يكون لديها أي ثقل سياسي أو اجتماعي أو ثقافي في داخل سوريا.

إلا أننا نعلم أن المعادلة في سوريا تتجاوز حدودها الجغرافية، فهناك نفوذ اقليمي يدعم هذه الحركات ويمدها بالمال الوفير. وهذا ما يجعل من الإسلاميين لاعبين فعليين على الساحة السورية وذوي تأثير فعال على مسار الانتفاضة السورية لابراز تيارات دينية خاصة، ليكون ذلك على حساب فئات أخرى في سوريا والتي تشكل القسم الأكبر إذا ما جمعناها في جبهة واحدة، والراغبة في إحداث تغيير كامل يشمل بما فيه تغيير ثقافي-اجتماعي وفكري.

منذ البدء تخوفت الفئات الدينية والطائفية والإثنية من مستقبل سوريا ما بعد الأسد فتجنبت الانضمام لهذه الانتفاضة، لتترك مكانها خاوياً مما سهل عملية الاستيلاء على هذه الأماكن من قبل المتشددين الدينيين. وهذا ما أثر سلباً على تطورات الوضع في الداخل؛ فمن جهة سمح هؤلاء الإسلاميون للنظام الأسدي في اثبات روايته التي اختلقها منذ بدء الانتفاضة عن تسلل “ارهابيين” جهاديين إلى داخل الأراضي السورية. فكان هَم الإسلاميين كسب المزيد من النفوذ على الأرض والاستيلاء على مجهود الأفراد المنتفضين في وجه الاستبداد والرغبة في العودة إلى تاريخ الغزوات الإسلامية حيث يتضح لنا هذا الشيئ من خلال تسمياتهم لأيام “الجمعة” والتي تذكرنا بتاريخ الغزوات الإسلامية. كما نجدر الإشارة إلى أن اصرار الإسلاميين على أسلمة هذه الانتفاضة يعزز السيناريو الطائفي المعتمد من قبل النظام الحاكم، ليقدم لنا الإسلامييون انتفاضة قائمة على أساس طائفي وليس على أساس التغيير والحرية كما كانت عليه في بدء الانتفاضة.

منذ بدء الغزو الإسلامي المتشدد في الفترات الأخيرة على الانتفاضة السورية واستيلاء الإسلاميون على مكاتب الاغاثة التي يتم توظيفها لخدمة غاياتهم، نلاحظ انسحاب الكثير من العلمانيين والفئات الأخرى التي تحلم ببناء بلد يتشارك به الجميع بغض النظر عن الجنس والاعتقاد والقومية من هذه الانتفاضة، وعودة البعض منهم إلى النظام وخصوصاً أولئك المحسوبين عليه منذ البداية لاعتبارات طائفية بالرغم من عدم اقتناعهم بالأسد وحاشيته. من الواضح انه لا يمكن لقوة الشارع المتمثلة ببعض الفئات اسقاط الأسد من دون جذب الأطراف المتحالفة حالياً معه واستمالة الكتل الصامتة الخائفة على مصيرها في حال صعود الإسلاميون على الساحة. والبدء في السعي لتحقيق مشروع الإسلام السياسي من خلال أسلمة الحياة اليومية والاقتصاد…الخ. فحقوق الإنسان والمساواة من مفهوم الإسلام الاجتماعي والسياسي يختلف كلياً عن مفهوم حرية الفرد والتي تعلو على جميع المقدسات.

لا شك أنه علينا أن نعطي فرصة لبعض الأطراف الإسلامية التي تقوم في اصلاح ذاتها ومفاهيمها على حسب ادعائها.إلا أنها فشلت في تطبيق ما تدعي به على أرض الواقع أي في الداخل السوري حتى يومنا هذا، فنراها تمارس الكثير من الاقصاء بحق كل من يمكنه أن يشكل قوة منافسة.

إذ يعتبر مبدأ التنافس بين القوى المعارضة والمتكافئة في القوة المحفز الأكبر للإصلاح الدائم ليكون وسيلة للإسهام في تحسين البرامج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الهادفة في تحسين شروط الحياة للفرد لإتاحة فرص أكبر للإبداع الفردي، وذلك لا يتم إلا بعد تبني مبدأ الشراكة بين جميع الفئات و المباشرة للدعوة إلى مصالحة وطنية بين كافة مكونات المجتمع.

إن حالة الاحتقان والغضب والرغبة في الانتقام هي حالات عاطفية يلجأ إليها الإنسان كمحاولة لإطفاء النار المشتعلة الناتجة عن فقدان قريب وحبيب. لكننا نعلم أن الانتقام لا يمكنه أن يعوض الخسارة المعنوية ولا يمكنه أن يحقق العدالة المبتغاة. بل على العكس تماماً، فنجده، وفي الحالة السورية، يعزز رواية النظام ليُدخل المجتمع في صراع طويل دموي لن يفيد إلا تجار دمائه.

أعتقد أن مسؤولية استمرار العنف اليوم تقع أولاً على عاتق النظام الموغل في ما يسمى الحل الأمني. ثانياً على عاتق الإسلاميين أيضاً الذين يحاولون بشتى الوسائل أسلمة الانتفاضة السورية، ليقوموا بذلك باستبعاد جميع الفئات المختلفة، وثالثاً تقع المسؤولية على الفئات المتنوعة في سوريا الرافضة للدخول في هذه الانتفاضة ككتل وفرض ذاتها كشريك حقيقي.

جميعنا مسؤولون عما يحصل في سوريا من إجرام أسدي ومروراً بانتهاكات حقوق الإنسان الممارسة من قبل بعض الأطراف المعارضة بحق مؤيدي النظام. فما يطلب منا اليوم هو البدء في إدانة جميع الانتهاكات الممارسة من الطرفين وتجريم أي فرد أو فئة تقوم بتجييش النفوس ضد فئة معينة. فبداية التغيير تبدأ أولاً بالتزامنا بحقوق الجميع وقبولهم مهما اختلفت الآراء .

المصدر : أسلمة الانتفاضة وخسارة سوريا 

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5