05/12/2010

في مقال سابق تطرقت للحديث عن الطوطم، وهنا لا بد لنا أن نلقي الضوء على ما يسمى بالتابو الوليد من ملاحظة الإنسان الأول لظواهر الطبيعة القاتلة .

دعونا في البدء نلقي نظرة سريعة على عملية الاستنتاج الفردي التي يتم تعميمها بشكل واسع .

نعلم أن النتائج الفردية عبارة عن حصيلة لصور عقلية عالقة في الذاكرة طويلة المدى والمليئة في نفس الوقت بالمشاعر والأحاسيس المرافقة لها أثناء حدوث التجربة الفردية، ليقوم بعدها الدماغ بتصنيف جميع الصور المتشابهة في الذاكرة الباطنية والترابطية والتي تعلن عن نفسها من خلال السلوكيات.

لا شك أن كل منا يعيش واقعه من خلال خيالاته إن كانت غنية أو فقيرة التجارب، إلا ان ما يفرق بين الفرد الواعي المنهمك في إغناء تجربته ومعرفته وبين الفرد القابع تحت سلطة الاكتساب المشروط هو الرغبة في تخصيب الخيال الذاتي المستمد من العلوم والمعرفة، بدلاً من الاستسلام إلى نتائج تجارب كانت وليدة الجهل والتعميم.

من الطبيعي أن يحرم الإنسان البدائي ما كان يجهله تجنباً للمخاطر، فلم يأت التابو من رغبة جماعية أو فردية في تنظيم الكتلة، ولهذا نجد خلو التابو في البدء من أية عقوبات تمارس على الأفراد الخارقين لتابوهات الجماعة. وذلك لأن التابو نفسه كفيل بقتل أي فرد أراد لمسه بشكل مقصود أو عن طريق الخطأ، فهو لا يعكس أي فعل لأنه يعني الامتناع، فهو كابح وليس محفز. وهذا ما يفرق بين التابو وبين التشريعات الدينية التي نتجت فيما بعد عن تحول في التابو الناشئ عن المشاعر النفسية المصابة بالهلع والفزع ليكون جواباً عاماً لكل الإصابات الناتجة عن حوادث متكررة والآتية من الصدف والظواهر الطبيعية.

نعود إلى ربط الانسان البدائي نفسه بالطبيعة، وذلك ليس لقدرته الواعية على انه جزء من النظام الطبيعي، أو إحساساً بكل كائن حي، بل جاء من عوامل نفسية ممزوجة بمشاعرالعجز عن التحكم بالخارج.

لاشك أن الجماعات استغنت عن خرافات كثيرة سابقة بسبب يأسهم من تكرار التجارب التي لا تبوء بأية نتيجة، فمع إدراك الإنسان لعدم جدوى المعتقدات السحرية في السيطرة على الخارج والتي تدعى بالتجربة الخارجية التي بدورها تندمج مع الإدراك الداخلي لإنسان لا يعي تفاعلاته النفسية، لينشأ عن هاتين التجربتين محاولة اللجوء إلى ما هو غيبي.

عند قراءتنا لبعض كتب التاريخ، نجد وبسهولة استخدام شعوب العالم بعد مرحلة “الانسان الزراعي” لحيوانات تقوم بتبشريها بخطر ما أو باستكشاف بعض الينابيع الطبيعية، وربما يعود ذلك لملاحظة الإنسان حدة القدرات الحسية عند الحيوانات، فمثلاً و كما كتب تاسيت المؤرخ الروماني عن تقديس اليهود الأوائل للحمار بعد كشف قطيع من الحمير الوحشي لموسى ينبوع المياه بعد أن استفحل به وبجماعته العطش.

نلاحظ أيضاً وفي نفس الكتاب لتاسيت سبب تقديم اليهود الثور قرباناً وذلك لرغبتهم بالانتقام من المصريين الذين كانوا يقدسون الثور تحت اسم “أبيس”.

إذن، نستطيع لمس آثار النظام الطوطمي في منطقة نشوء الديانات الابراهيمية، ولا بد التنويه إلى أن النظام الطوطمي تطور منسجماً مع المراحل التطورية للإنسان، فالنظام الطوطمي الأول والذي رافق مرحلة الإنسان الصياد يختلف عن النظام الطوطمي في مرحلة الانسان الراعي ومرحلة الإنسان الزراعي.

نعود إلى التابو المرافق للنظام الطوطمي والذي يعبر عن منع لمس الغرض التابو وأثره على الديانات الابراهيمية، فمثلاً نجد أن المرأة بعد الولادة، في بعض القبائل سابقاً، وعلى حسب دوركهيم، كان يتم الحجر عليها لمدة أربعين يوماً، وذلك لعدم كسر “تابو الدم”، حيث كان من المعتقد أن الدم هو روح الحياة، ولهذا فإن الطوطم الذي يرمز إلى سلف العشيرة والمسكون في كل فرد منتسب لها هو المؤجج لمبدأ التواصل الدموي بين أفراد العشيرة وطوطمهم.

من هنا جاء حجر المرأة بعد الولادة لما يقتني دمها من الطوطم المقدس، وبتعبير آخر يحتوي الدم على مفهوم الإله البدئي.

ربما علينا أن نقارن وجه الشبه ما بين التابو القديم للدم والملخص بتابو المرأة بعد الولادة، وأثناء الحيض وبين تحريم المرأة للصلاة والصوم أثناء الحيض، وكما ذكرت في المقال السابق أن المدنس جاء كتعبير نفسي لإلغاء مشاعر التقديس لشيئ ما ضاع سبب منشأه عبر العصور.

و بما أنني أتكلم عن المرأة، فلا بد للإشارة أيضاَ إلى عادة ضرب النساء بالخيزران والتي نجدها عند بعض الكهنة الرومانيين سابقاً، حيث كانوا يهرولون بأنحاء المدينة في الخامس عشر من الشهر الثاني في كل سنة، لضرب أية امرأة عابرة يرونها، وذلك اعتقاداً منهم بزيادة خصوبتها عن طريق الضرب بالخيزران. هذه العادة لم تكن مقتصرة على ضرب المرأة بالتحديد لزيادة الخصوبة، بل كانت بعض القبائل تضرب حيواناتها أيضاً لزيادة خصوبتهم (تومسون، فريدز، سالومون).

وبما ان التابو كان متوغلاً في النظام الاجتماعي ، فعلينا التنبيه إلى تغير مفهومه عبر العصور والتي نتجت عنه تشريعات عقابية تقوم الجماعة بتنفيذها، وذلك خوفاً منهم من انتقال العدوى إلى الأفراد الآخرين.

إذن، كان الخوف من انتقال عدوى انتهاك التابو هو المسبب الأول في تأجيج شعور الخطيئة عند الجماعة والتي نشأ عنها ضرورة التطهير لغسل الخطايا، فنجد على سبيل المثال، اتباع طقوس معينة في قبيلة “أكيكييوس” الافريقية لشراء أخطائهم من خلال الاعتراف لساحر القبيلة في أكثر الأحيان، ليقوم الساحر بالإعداد لطقوس معينة تبدأ بتقيئ المخطئ لكل ما تحتويه معدته، وذلك لتخفيف شعور الخطيئة عند مرتكبيها والمتمركزة بشكل جسدي وليس بشكل ضميري. من هنا جاءت فكرة كبش الفداء عند بعض القبائل، فبدلاً من عقاب المذنب المرتكب لجريمة ما، يقام بزج عنق الحيوان الأضحية للتخلص من خطيئة الإنسان بدلاً من عقاب المذنب (فريدزر) .

تواجدت عادة كبش الفداء في مجتمعات كثيرة التي سبقت الديانات الابراهيمية، ففي زمن “بلوتارك” و في مدينة “كيرونيه”، كان يتم جلد العضو الذكري لأحد العبيد مع الصراخ للكلمات التالية ” ارحلي عنا أيتها المجاعة، وتعالي الينا أيتها الصحة والفيض”.

وجدت هذه العادات في مرحلة الإنسان الزراعي، فالرواسب الطوطمية استطاعت أن تتحول إلى معتقدات روحية وإلى مبدأ العقاب والثواب الإلهي التي تتخللها طقوساً دينية من فكرة كبش الفداء إلى اقامة الصلوات لاستجلاب المطر، أي أن المناخ قد لعب دوراً أساسياً في ترسيخ هذه المعتقدات، لا بل أكثر من ذلك، نرى و ليومنا هذا دور المناخ في ترسيخ هذه الطقوس، فالبيئة التي تتوافر بها حاجات الانسان والتي تقوم بإشباعهم تحفز أفرادها على التفكير والاستكشاف لأمور كثيرة، فحالة إشباع حاجيات الانسان البيولوجية محفزة لعملية التفكير والإبداع .

المصدر : وفي البدء كان الحيوان الطوطمي _ الجزء الثاني

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5