24/05/2011

 لاشك أن الوعاء الثقافي بما يحمله من معتقدات وعادات وسلوكيات هو حصيلة درجة الوعي لدى جماعة ما، ومما لاشك فيه اننا جميعاً نسعى إلى رفع وعينا من أجل إدراك كل ما هو مستعص عن إدراكنا في وقتنا الحالي، وربما أيضاً علينا العودة إلى الماضي وفهم ما كان غامضاً على الإنسان وما جعله فريسة لمخاوفه النفسية، ليلجأ إلى إخمادها عن طريق الخرافات والروحانيات ومن ثم الأديان، لهذا ارتأيت في هذا المقال توضيح آلية تطور الدماغ عبر الزمان من خلال بعض النظريات العصبية الحديثة.

يرى ميكائيل بيرسينجرأن التغير الذي طرأ على أهم بنيتين لدماغ الإنسان (الهيبوكيمبس والاميجدلا) واللذان ساهما في اكتسابنا خصوصيتين مهمتين وهما: القدرة على التذكر وتقييم الواقعة، فنجد ان الاستذكار مرتكز على الشحنات العاطفية والأحاسيس الناتجة عن مبدأ المكافأة والعقاب. فقد وجد بيرسنجر أن المحفزات المؤثرة في منطقة الهيبوكيمبس الدماغية استطاعت على مر الزمن من التطور لانعاش ذكريات ماضية فمن خلالها استطاع الإنسان إضفاء الخيال والفانتازيا عليها، أما (الاميجدلا) فقد تطورت لتصبح مركزاً هاماً للتحكم في المشاعر المنبثقة عن التجارب، فمن خلال هذه المشاعر نستطيع التعرف على الفرح والبهجة أو الشعور بالاكتئاب الشديد. من هنا نلاحظ ان الذاكرة وخصوصاً الذاكرة الطويلة هي أساس تطور الوعي عند الإنسان، فبفضلها نستطيع تخزين التجارب المتراكمة.

أضاف لنا جيرالد ادلمان مفهوماً آخر كان قد ساهم في تطور الدماغ عند الإنسان، ألا و هو (القيمة) التي ترتبط بالتاريخ الفردي وكل ما نتج عنه من اكتساب لخبرة ما. فما حصل من تطور في الدماغ لاكتساب قدرة على خلق تمثيلات عقلية ومشاهد كانت حصيلة تجارب وخبرات استطاع الإنسان تخزينها في ذاكرته الطويلة والاحتفاظ بها كقيمة.

طرح هنري لابوريت أثر الثقافة الاجتماعية على الذاكرة، والتي تسمح بخلق تلقائيات عند الفرد وهذا ما نسميه بالتصنيف الثقافي، أي ان الثقافة والبيئة تحددان مسار الذاكرة في حفظ المعلومات الملائمة لثقافة جماعتها ولمتطلباتها أو حاجاتها الجديدة. ولتعريف الحاجة الفردية المرتبطة بالثقافة الجماعية، افترض لابوريت انها عبارة عن كمية من الطاقة أو المعلومة الضرورية للمحافظة على البنية العصبية الأصيلة أو المكتسبة الناشئة عن عملية التعلم. كما شرح هذه الآلية على انها تحول مستقر في المشابك العصبية من خلال العمليات الحيوية التي تقوم بها الخلية بتصنيع السلاسل الببتيدية من أجل تشكيل بروتينات تدخل في تكوين وصلات عصبية جديدة تجاوباً مع الأحداث الخارجية المستجدة. وهنا تصبح الحاجة محركاً أساسياً، فلا يمكن إشباع هذا الحاجات في وسط جماعي إلا من خلال مبدأ الهيمنة للجماعة، لتتحول الحاجة من توازن ما بين الداخل والخارج إلى سيطرة على الآخر، وهكذا نشأ التسلسل الهرمي عند الجماعات من وجهة نظره.

كلما خضنا في فهم ما يدور في دماغ الإنسان بشكل علمي، تتسع الهوة بيننا وبين التفكير الغيبي المسيطر إلى الآن على ثقافات عديدة، والذي مازال يشكل موروثاً ثقافياً قديماً كحاجز فكري وإدراكي لدينا. ولن نستطيع التخلص منه إلا من خلال متابعة علمية لكل ما لا نستطيع فهمه ولكل ما يعجز عليه إدراكنا عن استيعابه، فبالعلم والمعرفة نستطيع توسيع إدراكنا. فإذا قمنا بجولة في دماغنا مع الاستناد إلى علم الأعصاب النفسي، نكتشف العديد من التمثيلات العقلية الواعية أو اللاواعية، إلا ان ما يؤثر في تغيير استراتيجية سلوكياتنا هي التمثيلات العقلية الواعية القادرة على بتر تلقائية تفكيرنا والقدرة على خلق قوانين ومعطيات جديدة مستندة على وعينا.

بإلقاءنا الضوء على نظرية جيرالد ادلمان والتي من خلالها أعطى تفسيراً لكيفية تطور الدماغ عند الإنسان. ففي كتابه، بيولوجيا الوعي قام ادلمان بإيجاد ترابط وتبادل ما بين المؤثرات الجينية على السلوك وتأثير السلوك على الجينات، فقد اعتبر ان البيئة هي من تمارس عملية الاصطفاء الطبيعي على سلوكيات كائناتها، لكنه اعتبر أيضاً ان سلوكيات الأفراد تمارس تأثيراً متبادلاً على عملية الاصطفاء الطبيعي للبيئة. ليس هذا فحسب، بل وجد ان للمورفولوجيا تأثيراً بالغاً في عملية تطور الوعي الذي نشأ عن عملية انتقاء الجملة العصبية وتطورها تدريجيا، وهذا ما يسمى بالتطور المورفولوجي.

سنتوقف قليلا عند العلاقة ما بين الجينات والاصطفاء الطبيعي من أجل اكتساب سلوكيات غير موروثة، لكن قبل الحديث عن هذه العلاقة، علينا أن نعطي لمحة تاريخية سريعة عنها.

إن أول من وضع القاعدة الأساسية للجينات هو غريغور ماندل، ليمهد الطريق أمام الباحثين في الجينات والتطور، حيث جمعت النظريتين الداروينية والجينية فيما بعد داخل إطار واحد، وعلى هذا النسق استطاع الباحثون تقديم تفسير لعملية ارتباط الدور الجيني بالاصطفاء الطبيعي للبيئة. ولتسليط الضوء بشكل أفضل على تطور البنية العصبية الدماغية، ربما من المفيد لنا الكشف عن تاريخ تطور الوعي و كيفية نشوءه .

يتبع في الجزء الثاني …

المصدر : الذاكرة والوعي _ الجزء الأول

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5