29/05/2011

 كنت قد توقفت في الجزء الأول عند آلية تطور الوعي، لأتطرق في هذا المقال لنظرية حديثة وهي نظرية اصطفاء المجموعات العصبية لصاحبها جيرالد ادلمان اختصاصي البيولوجيا ومدير المعهد العصبي في “جولا” ب”كاليفورنيا”.

قسم ادلمان الوعي إلى قسمين: الأول ولقبه بالوعي الأولي، أما الثاني فقد أعطاه تسمية الوعي الأعلى كونه يتميز بتفوق على الأولي.

فما هو الوعي الأولي؟

اعتبر ادلمان أن الوعي الأولي ينقسم بدوره إلى نظامين في النظام العصبي: الأول مؤلف من منظومة مشكلة من الجذع الدماغي والجهاز الحوفي(لمبيك سيستم)، ووظيفة هذه المنظومة تنظيم عملية الاغتذاء، كما انها مسؤولة عن العملية الجنسية إضافة إلى جميع استراتيجيات الدفاع التي اكتسبت واستمدت خصائصها من خلال التطور، كما أنها مسؤولة أيضاً عن عمليات أخرى كالتنفس والتعرق والنوم…الخ، أي أن هذه المنظومة تخدم الأساسيات الضرورية للحياة، فنراها موجودة عند جميع الكائنات الحية التي تمتلك نظاما عصبيا. إذن، هذه المنظومة عبارة عن نظام داخلي تطور مع الزمن من خلال عملية التطور المستمرة. أما النظام الثاني والمؤلف من (تالامو كورتيكل)، منها المهاد (التالاموس) والذي يشكل البنية المركزية للدماغ والتي تحتوي خلاياه على نويات عدة وظيفتها تمرير الإشارات الحسية وغيرها إلى اللحاء، لهذا يعتبر الوسيط الناقل للمعلومات الحسية إلى المراكز العليا للدماغ، ليقوم الدماغ مرة أخرى بغربلتها فيبرز بعضاً منها ويقلص البعض الآخر.

ارتبط هذان النظامان بعضهما البعض مع مرور الزمن مؤلفان بذلك الوعي الأولي كي يمنحا الكائنات الحية المقدرة على التأقلم مع البيئة المتواجدة بها. فنلاحظ ان التعلم يشكل أساس التأقلم عند الإنسان والحيوان معاً، فالبيئة متحولة وليست ثابتة فهي في تغير مستمر في المكان والزمان. وكما أن الطبيعة تتخلص من كل البنيات غير المتأقلمة معها، فهي في انتقاء دائم للسلوكيات المتأقلمة معها.

وكما نعلم أن السلوك ينتج عن الخبرة البيئية، فهي التي تتيح للكائنات بالتعلم والتأقلم ضمن الشروط البيئية المتاحة لهم. ولا ننسى أيضا أن سلوك التعلم المختار هو لاكتفاء الحاجات الفيزيولوجية والمدلولات المنبثقة على مجموعة الجذع الدماغي والنظام الحوفي(اللامبيك) لتتم عملية ضبط بينهما.

بالعودة إلى مفهوم الوعي الأولي والذي ساهم وجوده القدرة على خلق مشاهد في عقولنا (حسب ادلمان). اقترن الوعي الأولي بعملية التطور، ليتبين لنا ان ثلاثة وظائف أدت إلى نشوئه: الأولى ‍وهي النظام القشري (كورتيكال) الذي سمح بارتباط المفهوم الوظيفي أو الأفكار مع النظام الحوفي مما أدى إلى توسيع القدرة على التعلم؛ أما الثانية فهي نمط جديد لذاكرة فهمية قادرة على ترتيب وتصنيف الأجوبة القادمة من الأنظمة الدماغية المختلفة منفذة بذلك عملية تصنيف للعمليات الإدراكية؛ أما الوظيفة الثالثة التي ساهمت في نشوء الوعي الأولي، فهي حلقة ريانترانت (وهي مبدأ لقاعدة هندسية من بنى خلايا عصبية تؤدي إلى ولادة حلقات إعلاميه من نوع تحكمي، أي أن الحلقات الريانترانت عبارة عن مجموعة متصلة ببنى تستطيع إعادة ادخال مستمرة للمعلومة بشكل استرجاعي*الفيدباك) والتي تسمح للذاكرة المؤسسة على القيم التصنيفية التي تعالج التصنيف الإدراكي في الوقت الفعلي لتبادل إشارات مستمرة بطريقة استرجاعية (ريانترانت).

أكد ادلمان و تونوني أهمية تشكل عقد التالامو_كورتيكال في ظهور الوعي، كما نستطيع القول إن الوعي الأولي الموجود عند الإنسان والحيوان نشئا على أساس الذاكرة القصيرة والتفاعل ما بين نوع خاص من الذاكرة والتصنيف الإدراكي، مما أدى إلى ولادة الوعي الأولي.

يرى ادلمان أن الكائنات التي تملك الوعي الأولي قادرة على خلق صور عقلية إلا أنها عاجزة على النظر إلى هذه الصور من زاوية الأنا الاجتماعية كما هو حال الإنسان بعد تطور جهازه العصبي والعقلي واكتسابه الوعي الأعلى القادر على ربط كل تمثيل عقلي بقرينه الآخر لتشكيل سلسلة من تمثيلات عقلية مترابطة. إذن هناك التصنيف الإدراكي الذي يعالج الإشارات الآتية من العالم الخارجي من خلال الأعضاء الحسية، وهناك التصنيف المفاهيمي (القادر على تشكيل المفهوم) الذي يعمل داخل الدماغ ويعتمد بالتحديد على التصنيف الإدراكي للذاكرة.

هذه القدرة وجدت عند الإنسان إلا أن العلم يقر بوجودها أيضا عند الشمبانزي، فهم يملكون بعض العناصر من مفهوم الأنا، فبناء مفهوم الفردية مرتكز على التفاعلات الاجتماعية لإيجاد نموذج للعالم من خلال ربط الماضي بالحاضر والمستقبل، أي حتمية وجود ذاكرة رمزية. كما ان تطور المسالك الصوتية والمراكز الدماغية لفهم وإنتاج لغة ناطقة أدى إلى تطور الكلام عند الإنسان والذي ساهم بشكل كبير في تطور الوعي البشري. مما أدى إلى تطور مفهوم الأنا والى اكتساب الوعي الأعلى عند الإنسان.

نجد أن التفاعلات المتواجدة بين الأفراد أدت إلى انتاج قدرة نوعية في تخزين علاقات رمزية لفترات طويلة (فتفاعل أكثر من ذاكرة ونشوء ذاكرة معتمدة على التجارب الإدراكية تستطيع ربط الماضي بالحاضر مع القدرة على خلق صور للمستقبل) والتي ساهمت وإلى حد بعيد في نشوء الوعي الأعلى. فالدماغ خاضع لعمليتين انتقائيتين هما الاصطفاء الطبيعي والاصطفاء الجسدي الذي بدوره يخضع للاصطفاء الطبيعي، فهو يربط ما بين الإشارات الملتقطة والتمثيلات العقلية ليقوم بتشكيل ولادة وعي مرتكز على مجموعة من العلاقات الموجودة ما بين الإدراك وبنية المفاهيم والذاكرة المتأثرة بنظام القيم الناشئة خلال فترة التطور، كما وضح لنا ادلمان في كتابه بيولوجيا الوعي، مجرى الوعي الأعلى ومساهمته في بناء الخيال والمشاعر والأحاسيس والأفكار والأنا والإرادة. فسلوكنا محكوم من قبل ذاكرة ناتجة عن اعادة تصنيف نافذة تحت تأثير التغيرات الحيوية لعدد معين من القيم.

بعد الاطلاع على بعض النظريات الحديثة، نجد أن تعاطينا للمفاهيم إن كانت اجتماعية أو دينية، قائمة بالارتكاز على عملية التحول والتغير المستمر عبر الزمان، فلا إدراك ثابت و لا مفهوم محدد في إطار معين، إنما إدراكنا وإضفاءنا القيم على المحيط الخارجي يتم من خلال وعينا المتغير للخارج كي يكون منحانا متلائماً مع الطبيعة والحياة نفسها، فعملية التطور عبر ملايين السنين استطاعت انتقاء آليات التعلم التي تساهم في عملية تأقلم الأنظمة العضوية مع بيئتها المناسبة للزمان والمكان المختلف, ومن هنا نستطيع القول أن الأخلاق الناتجة عن تقييمنا الإدراكي للأشياء والمعطيات تتغير بناءا على تغير في عملية الإدراك لإضفاء قيماً جديدة أو الاستغناء عن قيم لم تعد تتماشى مع البيئة الخارجية .

المصدر : الذاكرة والوعي _ الجزء الثاني

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5