16/06/2008

 تستيقظ هذه الآلة الإنسانية من ثبات طويل، فتحاول جاهدة استرجاع تاريخها و العودة إلى ذكريات مدفونة في الأعماق منذ الاف السنين، لكنها تخفق في إلمام صور تاريخها المنسوخة في الطبيعة، فتستعين جاهدة بحجارتها كي تنتصر على الطبيعة لتصبح الرائدة، إلا أنها تتجمد كلما تحاول لمس أعماق ذاتها، فتستشيط غيظاً وتسلط جام غضبها على أطرافها، لتلعن الفرد وتستسلم للخيال الخرافي، وتعلن حروبا بين أطرافها كي يثبت كل طرف تفوقه على الآخر.

ها هو الإنسان بعد أن صنع إلها له، صنع حاجزاً بين وعيه وبين وقوده المخزون، فنشأت الأديان لتقمع لاوعيه ولتستوحي رموزها من الكيان اللاوعي الجماعي ليعبر كل دين عن شخصية مؤسسه، وعن جميع غرائزه اللاواعية، ليسلط هذا المؤسس نرجسيته على الأفراد والمجتمعات، فيصبحون قطيعاً له باسم الدين.

صنع الإنسان إلهه و جرده من محتواه الروحي، ليصبح حاجة جماعية غرائزية. ولهذا نجد تناقض الإله مع ذاته ومع فكرة وجوده، فلم يعد الإله البداية والنهاية، بل تجرد من رمزه الروحي ليصبح حقيقة نفسية عند كل فرد ضعيف النفس، ليتسلح به الفرد أمام الجماعة، و تتسلح الجماعة أمام التاريخ لتعطي نفسها الحق في البقاء، فتسلط غرائزها على الطبيعة.

ظهر الدين من إرادة غرائزية جماعية كي تسجن الفرد في حلقتها، فتوحد الجماعة وتتوحد جميع الغرائز اللاواعية في وعاء جماعي لتستعبد الفرد، وتضع حداً لغريزته الفردية فينصهر الأفراد في الجماعات وتتحول الغرائز الجماعية إلى إله يسلط نزواته على الأفراد.

منذ البداية بحث الإنسان عن القوة، فكانت في البداية القوة الجسدية ثم انتقل إلى القوة بشكلها العام. ومن أجل امتلاكها بحث عن المصدر إلا أنه فشل في تحديد مصدر القوة، فمنبعها الطبيعة و بما أن الإنسان يدرك في إرادته اللاواعية استحالة السيطرة على الطبيعة استعان في قوى خالقة غير طبيعية.

منذ البدء نرى كيف حاول الإنسان الأول مزج الطاقة مع الرموز الدينية. فكما توضح لنا بعض الصور المنقوشة على الحجارة، كانت مملكة الواكاندا في افريقيا منذ الآف السنين، ليطلق على كل قوة غير مفهومة أو ملموسة “الواكاندا” فكانت الشمس والقمر والنجوم والرعد والريح والشياطين المسكونة في العناصر، فكما عبر عن هذه الفكرة  ماج جي فقال: ” الواكاندا هي تعبير عن الأسرار والقوة والمقدسات و لأبدية، لتكون الواكاندا القوة العملية والكونية”.

مع تطور الإنسان تطورت هذه الفكرة، فكان السومريون هم من وضعوا أسس النظام الكوني، فصنعوا الآلهة وأعطوهم صفات بشرية ومنحوهم غضافة لهذه الصفات أبدية لا يمتلكها الإنسان، لتشبه الآلهة الإنسان في اختلاج المشاعر والانفعالات الطاغية.

ومع خلق الآلهة، نشأت الأساطير والخرافات حول بداية الكون، فنرى التشابه الكبير بين ملحمة الخلق عند البابليين وسفر التكوين ، فكانت الأفعى في ملحمة “الاينوما ايليش” تعني الظلام كما كانت في سفر التكوين . أما ملحمة “اتراحسيس” البابلية التي سطرت ميلاد الموجودات البشرية، فكان خلق البشر قد تم من طين و دم، كما تروي النصوص السومرية “اينمكار واله اراتا”: “في تلك الأيام لم يكن هناك حية ولا عقرب، لم يكن هناك سبع ولا ضبع ولا كلب شرس ولا ذئب ، لم يكن هناك خوف ولا رعب ، لم يكن للإنسان منافس وغريم ، كانت بلاد مارتو آمنة مطمئنة، وكان الكون جميعه والناس كلهم، يمجدون انليل بلسان واحد”. كما يمجد الإنسان الله بلسان واحد.

ونلاحظ التشابه ما بين خلق حواء في سفر التكوين وخلق نينتي “سيدة الضلع” في أسطورة سومرية أخرى، كما لم يغفل السومريون أيضا عن خلق أسطورة التمرد البشري على الآلهة، و ذلك في قصة” اليساتي شوكا كيتودا” الذي ارتكب خطيئة قاتلة بان أوقع “انان” في الغواية، لتجسد الملحمتان “اتراحسيس و جلجامش” غضب الآلهة حيث أنزلت الآلهة الطوفان كعقاب على الجنس البشري. ولم يغفل عن السومريين أيضا، خلق اسطورة العفاريت كعفريت الأوبئة “اساج” كي يستطيعوا تفسير الكوارث والأمراض التي حلت بهم.

ما زال الإنسان يبحث عن نصر لخوفه، نصر للظلام الداكن في أعماقه، فلم يجد إلا أن يلبس قناع الإله ليختبأ وراء عجزه، لكنه لم يدرك في البداية، انه كلما ازداد تمسكاً بهذا الإله، ازداد في أعماقه الخوف و الشعور بالهزيمة في حياته.

المصدر : البحث عن الخالق

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5