23/06/2008

 إذا أردنا النظر إلى الحركة الاجتماعية عند الشعوب البدائية، نراها تتشابه إلى حد كبير مع شعوبنا التي ما تزال تتفاعل مع المحيط الخارجي بطريقة فطرية .

لا شك أن الإنسان ومنذ ولادته، تولد معه رغبة دفينة للتميز عن الآخرين، لكن التربية الأسروية والمعايير الأخلاقية النسبية للمجتمعات هي التي تحدد المنحى للتفرد والتميز.

فغالبا ما يلجأ الإنسان إلى تقليد شخصية أسطورية تمثل مجتمعه وتمثله. فإذا نظرنا إلى المجتمعات الفطرية، نرى في أساطيرها نموذجا للبطل الأسطوري. فغالبا ما يكون هذا البطل مؤسس عقيدة أو دين أو بطلاً وهمياً، لكن ما يجمع بين هؤلاء الأبطال هو نموذج لشخصية قائدة تستطيع مجابهة الآخر الغريب لتنتصر عليه وبانتصارها ترسخ عقائدها على الآخرين.

ولدت هذه الحالة من الدكتاتورية الفكرية منذ ولادة الإنسان، لتنصهر هذه الرغبة الفردية في المجتمع ويتكون بعدها رغبة فطرية قبائلية. فإذا دققنا في تاريخ الهنود الحمر مثلاً، نجد في قبيلة “اونونداكا” تمجيد هذه القبيلة لبطلهم الأسطوري “هيواثا”، فقد نسجوا من الخيال الرائع ميلاد وانتصارات هذا البطل.

هذه الصورة المنسوجة من الخيال، نراها تتكرر عند جميع الأنبياء والقديسين. فالإنسان بحاجة إلى صورة إنسانية من عرقه أو جنسه ليمثله وليستطيع من خلال هذا البطل تحقيق ذاته وكيانه.

مع مرور الزمن يتحول هذا البطل إلى رمز ديني حيث ينتج عن هذا الرمز فروض دينية، ليصبح الفرد في حالة أسيرة لمعتقداته. فكلما ازداد شعور الانتماء إلى القبيلة، فرض الفرد على ذاته وعلى القبيلة قيودا جديدة يصعب بعدها كسرها والانفلات منها. في هذه الحالة يخلق الإنسان جنة في أعماقه ليبيح لنفسه ممارسة الرغبات المكبوتة والمحرمة عليه على العرق الآخر الذي لا ينتمي له.

لا ننسى أيضا أن للإنسان مشاعر متناقضة، فهو في حالة تقديس دائم لشعارات قبيلته محاولة منه لاكتساب السعادة الناقصة في داخله. فالإنسان في بحث دائم عن جنة السعادة المفقودة، فهو يعلم أنه مخلوق يميل إلى الألم والحزن أكثر من ميله للسعادة، ويعود ذلك لأثر الثقافة الجماعية عليه والتي تميل إلى حفظ التجارب الحزينة في ذاكرتنا. لذا نجد انه من السهل أن يكون لنا تجارب حزينة ومؤلمة، لأن الألم يأتي أولاً من المخزون العميق للإنسان، وثانياً من التطورات الخارجية التي تشكل تحديا كبيراً له وأخيرا من العلاقات الإنسانية التي هي أشد ضررا عليه من غيرها، وكما يقول غوته “أصعب شيء على الإنسان هو تحمل كمية كبيرة من السعادة لفترة وجيزة”.

هذه الرغبة اللاواعية بالألم والمكرسة من قبل الثقافة الاجتماعية، تدفع الإنسان لتقديس آلام بطله الديني أو تقديس آلام أجداد قبيلته، فينتج عن هذا التقديس شعور الاعتراف بالجميل للأرض التي حملتهم، ولليد التي علمتهم مبادئ وأسلوب العبادة، فيلتصق الأفراد بالقبيلة، ليكبلوا بعدها أنفسهم بسلاسل طائفية، فتصبح الطائفية هي العامل الرئيسي الذي يوحد بينهم، ليصنعوا على أساسها علاقات اجتماعية مبنية على أسس طائفية.

هذه الأسس الجديدة المتعارف عليها من قبل جماعة معينة تؤثر سلبا على أفرادها ، لتجعلهم في صراع دائم. ينشـأ عن هذه الحالة انعزال الأنا الجماعية عن العالم المختلف الخارجي لتضيق حدود الأنا الجماعية ومنها الأنا الفردية، فتنعدم الجسور ما بين الأنا الداخلية والخارج المختلف. و مع انعدام هذه الجسور تنعزل الأنا وتصاب بالعقم كي يستحيل بعدها تلقي المعلومات والنظريات أو الأسس الجديدة التي تضاف إليها بشكل طبيعي.

مع فقدان القدرة على فهم العالم الخارجي، يفقد الإنسان القدرة على التحول والتطور. فالقدرة على استيعاب كل ما هو محيط خارجي مختلف يدفع الإنسان إلى التكيف مع الآخرين، فهو المحرك الأساسي للتطور واستيعاب الآخر.

إذن، الطائفية هي أشد حالات الانعزال النفسي عند الأفراد والجماعات، فهي الحالة القصوى للعقم الفكري. ومن هنا يكمن الخطر، فكما يقول “نيتشه” “الانعزال النفسي هو الخطر ذاته”.

يتحول هذا السلوك الانعزالي الطائفي الجماعي إلى حالة دفاعية عن الذات، لتتبناه الجماعة ومن ثم الأفراد ويتراكم على أثر هذا السلوك حالة من الخوف تصيب الإنسان. ليتملك الفرد خوف من هدم البناء الذي تـأسس من قبل أجداده وطائفته. هذا الخوف يجعله يبتعد عن تحديد المصدر الرئيسي لجميع مشاعر الأرق ليعتقد أخيرا أن جميع قلقه وعزلته آتية من الخارج. فالإنسان الفطري عاجز عن التفريق ما بين الأنا الذاتية وما ينتج عنها، وبين المشاعر الناتجة عن الخارج، لتتكون لديه جميع المخاوف النفسية المتراكمة، فيتحول هذا الخوف إلى شعور بالتعالي على الآخر.

نجد أن  جميع الكتل الجماعية الفطرية تنظر إلى الجماعات الأخرى على أنها أحط منها قدراً، وهكذا نرى التشابه ما بين الهنود الأمريكيون الذي يعدون أنفسهم “شعب الله المختار” وبين القبائل الهندية التي تطلق على نفسها صفة “الناس الذين لا ناس سواهم”.

المصدر : العقم الفكري في التفكير الطائفي

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5