13/07/2008

لا شك أن المجتمعات بكاملها تمر بمراحل عديدة وتقلبات جذرية تؤدي إلى انعطافات ينتج عنها تغيير في البنى التحتية. هذا التغيير يؤدي إلى اكتساب خصائص جديدة تساعد المجتمع على التوسع والتقدم. وغالباً ما يرافق هذه المرحلة الانتقالية عثرات هائلة تأتي من شريحة دينية موجودة على رأس السلطة أو متعاونة مع نظام مستبد.

ولا شك أن الظروف التي تساعد على التحول تختلف من مجتمع إلى آخر، لأن لكل مجتمع ظروفه الايديولوجية والاقتصادية والاجتماعية التي تساهم إلى حد كبير في التأثير على عملية التحول. وبإلقاء الضوء على تجارب بعض الدول والمجتمعات ودراسة العوامل والحوافز التي ساهمت في انجاح تجربتها الانتقالية والتي يمكنها أن تساعدنا إلى حد ما في كيفية الاستفادة منها.

فإذا نظرنا مثلاً إلى التجربة الأوروبية في القرن الثامن عشر ودرسنا بعض العوامل التي ساعدت الأوروبيين للتخلص من سيطرة اللاهوتيين. مع العلم أن اوروبا في القرن الثامن عشر كانت تعاني من اضطهاد لأقلياتها الطائفية ومن سيطرة الكنيسة على العلم والاعلام، فقد كان رجال الدين يرفضون فكرة التسامح مع أي فرد أو جماعة تقوم بنقد القوانين والدين. فنلاحظ استبدادية صموئيل جونسن في تصريحه “إن التعليم الباطل ينبغي قمعه بمجرد ظهوره، وينبغي أن تتحالف السلطة المدنية مع الكنيسة في عقاب من يجرؤ على مهاجمة الدين المقرر”.

إلا ان ما ساعد على قلب الموازيين آنذاك هو اكتشاف الأوروبيين حضارات أخرى، كحضارة الصين التي كانت تعيش عصرها الذهبي، فجاء فضول السلطات لاستكشاف الحضارة الصينية لجمع أكبر قدر من المعلومات عنها حيث قامت بعض الحكومات الأوروبية، ولا سيما فرنسا وانكلترا بإرسال بعثات استكشافية من يسوعيين وعلماء ورحالة، مما ساهم هذا الانفتاح على الثقافة والفلسفة الصينية تقويض العقائد الدينية عند الأوروبيين. فقد اكتشف الغرب يومها نظاماً خلقياً لا يعتمد على دين سماوي، مما أثار فضول بعض الفلاسفة في التمعن بمذهب الكونفوشبة والتاوية فأثارت هاتين العقيدتين اعجابهما لخلوهما من أي عنصر من عناصر العقيدة. فجاء اعجابهم بكونفوشيوس الذي أضاف الوارع الأخلاقي، وأنشأ مذهباً أخلاقياً واجتماعياً وفضله على كثير من الممارسات العقائدية القديمة من خلال طرح نظرية الخير والشر من الجانب الأخلاقي الإنساني وليس من جانب الخوف من العقاب الأسمى. فكونفوشيوس استطاع قلب الكثير من مفردات لغة الديانة البدائية إلى مفردات أخلاقية بحتة واقامة شريعة كاملة للآداب الاجتماعية الحسنة، فقد توجه إلى الإنسان وإلى خدمته مع محاولة الوصول إلى الإنسان الأعلى.

هذه الفلسفة أثرت إلى حد كبير في الانفلات بشكل نوعي من السلطة اللاهوتية عند الأوروبيين، فجاء اعجاب بعض الفلاسفة بكونفوشيوس، ومنهم الفيلسوف الالماني “فولف” الذي كان على استعداد أن يضعه في زمرة القديسين لأنه “علم الشعب مبادئ الفضيلة قبل تأسيس المسيحية بخمسمائة سنة”.

 كما نرى تأثير الحضارة الصينية على الأدب والمسرح الأوروبي فظهرت مسرحيات بخلفية صينية على المسرح الانجليزي، كما طور فولتير مسرحيته “يتيم صيني” من دراما صينية، لنرى، بعدها، وصفه للصين في قاموسه الفلسفي بأنها “أروع ممالك الأرض وأقدمها وأوسعها وأحفلها بالسكان وأحسنها تنظيماً”. كان هذا على الصعيد الفلسفي والأدبي.

أما على صعيد العلم، فقد جاء دور الاكاديميات مكملاً له وجاء ارتقاء بعض الفلاسفة إلى مناصب استراتيجية فيها كمنصب دوكلو، عاملاً مهماً في تغيير المنهج الأكاديمي. كما كان فتح الصالونات، والمقاهي للنقاش نقطة بداية في تحاور الفكر وتطوره.

هذه الأمور ساهمت إلى حد كبير في ازدهار الاعلام واصدار المجلات العلمية والأدبية لتساهم في وصول العلم والمعرفة إلى الطبقات الوسطى على غرار طبقات الأشراف، لينتج عنها ابتعاد الناس عن الخرافات الدينية والسحر. أما نمو العلم، فقد كان العامل الرئيسي في تفتح العقول وفهم الأمور الغامضة، فظهرت الآلة التي ساعدت على الانتقال من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي.

هذا التحول نتج عنه ولادة أفكار جديدة، كولادة الليبرالية في انكلترا وفرنسا، فكان ظهور الأحزاب ومنها الحزب الكاثوليكي الاجتماعي في بداية القرن التاسع الذي اهتم بشؤون العامل حيث قام أرباب العمل بوضع خدمات عديدة كصندوق التوفير والمدارس…..الخ.

بدأ اهتمام الأحزاب بالعامل وسعي هذه الأحزاب إلى تحسين معيشته. فجاء التفكير الاشتراكي مع أوائل المفكرين الذين كانوا من طبقات برجوازية ونبيلة، فهم من انتفضوا ضد استغلال الكتلة العاملة من قبل الرأسمالية فنادوا الطبقة الكادحة للسيطرة على السلطة، لنلاحظ أخيراً دور الطبقات البرجوازية الذي لعب دور المحرك الرئيسي للانتقال النوعي. كما نلاحظ دور بعض النبلاء في خلق أفكار ثورية فلسفية على مر العصور. إلا اننا إذا أمعنا النظر في دور البرجوازية العربية حالياً نرى الأثر السلبي التي تتركه على مجتمعاتها، فهي تتسم بالقصور الفكري لتركز جميع قدراتها المحدودة على جمع المال بطرق ملتوية.

المصدر :أثر الفلسفة الصينية على اوروبا الثامن عشر

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5