07/06/2010

 وضح لنا كل من علم الأعصاب والنفس صراعات الإنسان الداخلية المتمثلة ما بين العقلانية الواضحة خصوصاً خلال الفترة النهارية وبين تخيلات وأوهام الليل التي تجتاح الانسان، لترسله إلى متاهات الطفولة وإلى ذكريات بعيدة تراكمت عبر الزمن لتأخذ شكلاً مختلفاً، فمنها من يندمج مع ذكريات أخرى لتشكيل صور جديدة في الذاكرة.

دعونا نغوص في أصل الآلهة، والأديان والاساطير والتي اتتنا من التجارب الانسانية المتراكمة والمرتكزة على مرحلة الطفولة، حسب بعض الدراسات الانتربولوجية والنفسية والعصبية. فإذا تمعنا في علاقة الإله-الإنسان، نرى أن هذه العلاقة عبارة عن انعكاس لعلاقة الأهل-الأطفال، إلا ان القلق الطفولي كان المؤثر الأساسي لدفعها إلى اخذ منحىً آخر، وبذلك اضفى عليها قدرة وانتشاراً أكبر. وهذا بالطبع لم يمر بطريقة مباشرة واعية، بل مر عن طريق شراكة لغوية، ليتم الجمع بين صفات عديدة للغله مع كلمات عظمى وحسنة، كما  ان علاقة العقاب-الثواب بين الأهل وأطفالهم، انعكست على العلاقة الإلهية-الإنسانية، لتستمد منها جميع القواعد.

بين لنا اختصاصي الأعصاب بيرسينجر هذه العلاقة والتي تصب في اكتفاء الحاجات البيولوجية الأولية للطفل كالطعام والشراب والحنان التي يوفرها الأهل، فنرى التصاق كل وجبة طعامية مع مفردة الشكر للإله، لهذا نرى أن جميع المنظمات الدينية التبشيرية تشارك الأفراد والجماعات الطعام والشراب، أي أن الإله أصبح مرافقاً لحاجة بيولوجية أساسية للإنسان.

يتعلق الطفل بأمه كونها تؤمن له حاجاته الأولية كالطعام والدفء والحماية، إلا انه عبر الزمن، يتلاشى شعور الضمان وحماية الأهل لأطفالهم، وذلك لعدم استمرار الأهل مدى الحياة. وهنا تبدأ عملية التعويض عن فقدان الضمان في فترة الطفولة الناتجة عن عجز الطفل عن تحمل مسؤوليته وعن الدفاع عن نفسه، ليقوم بعدها  بإستبدال الأهل بقوة عظمى لاحدودية، أو إله جبار، لهذا نستطيع فهم وجود آلهة أنثوية في الثقافات القديمة  خصوصاً في المجتمع الأمومي سابقاً، ليتغير جنس الآلهة تدريجياً مع انتقال المجتمع من أمومي إلى أبوي.

بعد فترات طويلة قضاها الأنتربولوجي واختصاصي النفس جيزا روهيم متنقلاً بين القبائل الاسترالية، أكد لنا أثر الطفولة في ابتكار الأساطير والآلهة. فحسب الطبيب النفسي وطبيب الأطفال دونالد وينيكوت الذي وجد ان صورة الأم تأخذ طابعاً جديداً في نفوس الأطفال، فتتحول من أم رقيقة معطاءة إلى غول أو ساحرة، و يفسر هذا الشيئ  بعدم قدرة الأم على اكتفاء جميع حاجات طفلها.

 وهنا نرى الكثير من الاساطير المحكية عن وحوش أو شياطين أنثوية آكلة للحوم البشر، والمعاقبة للذكور كالعفريت الأنثوي “كنارينتيا” والتي تأتي إلى الذكور ليلاً لتجلس على عضوهم الذكوري فتقوم بمحاكمتهم وعقابهم إما بقطع العضو الذكري أو بقتلهم وذلك من خلال عضوها الأنثوي السام.

هذه العفاريت البدائية الممثلة للعقاب والاساطير تستمد منابعها من علاقة الطفل-الأم، فنجد نساء قبيلة “بيتجينتارا” في استراليا يتمتعن بعطف وحنين تجاه أولادهن، وبنفس الوقت يقمن بالتهام الضعفاء من أطفالهن ليمنحن حناناً وعناية شديدة للآخرين الاقوياء، أي انها عملية انتقاء الأقوى من الأطفال كما تفعل بعض الحيوانات، وكما تؤكد لنا نظرية الاصطفاء الطبيعي.

من ناحية أخرى، تؤجج هذه العادات رغبة دفينة للانتقام عند الأطفال، لهذا يجد البعض من اختصاصي علم النفس-الأنتربولوجي، أن العفاريت والأشباح تعكس بصورة أخرى رغبة الطفل في اختراق جسد أمه لافتراس جميع أعضائها. فكما قالت اختصاصية الأعصاب ميلاني كلاين “يعكس الطفل عدوانيته تجاه أمه أولاً، و من ثم يعكسها على أبيه، ليغرق في مخيلاته الهادمة للأجساد”.

من المرجح ان علاقة الأم بطفلها منذ بدء تكوينه في رحمها وانفصاله عنها (لحظة الولادة)، كانت سبباً من أسباب القلق الطفولي الذي ساعد في نسج القصص الأسطورية، و من ثم الدينية.

هذا الشعور لا يمكنه المرور بطريقة سلمية، فهو يخضع إلى جملة مشاعر متناقضة وجملة من الأحاسيس بالذنب، لتنقسم العملية النفسية إلى قسمين يتراوحان ما بين الخير والشر، الجنة والنار، وبالطبع بين الإله والشيطان. فلا يمكن لوجود إله من غير وجود نقيضه، فنحن جميعاً نخضع لهذه التناقضات النفسية، إلا أن ارادتنا الواعية توجهنا نحو فهم أوسع واختيار أفضل، بينما نرى ان الإنسان الخاضع لمشيئة إلهه ودينه بشكل غير واع وذلك من دون التفكير أو التمحيض في تعاليم إلهه، إنساناً يشبه إلى حد بعيد حالة الطفل غير الواعي لما يدور حوله، والمستسلم لحماية أهله له، ليمدد بعدها هذه المرحلة الشبيهة بالخضوع والاستسلام والراحة لإله يعوضه عن التفكير والعمل.

نلاحظ أن عملية اقتران الإله بمفردات عدة لا تساعد كثيراً على قيام الفرد بعملية الفصل بين الأوهام وبين التجارب العملية الساعية إلى فهم وإدراك تتجاوز العفاريت والسحرة والآلهة معاً، فالمفردات المقترنة بالإله تدفع الفرد إلى بناء حاجز بينه وبين الارادة الواعية لمعرفة تاريخه وعلله، لإيجاد صيغ تناسب حاجاته البيولوجية والنفسية والتي يمكنها أن لا تتعارض مع مبدأ الجماعة.

إذنن نلاحظ أن التحكم بالأفراد يتم عبر قنوات لغوية تنغرس في ذاكرتنا، لتصبح عبارة عن استنتاجات تلقائية خالية من أي أسس تجريبية، فإذا قلنا من هو الإله؟ يأتينا جواب فوري فارغ من أي تحليل سليم، فالإله اصبح الجواب الرئيسي لكل فرد عاجز عن استخدام عقله .

المصدر :  احياء الإله من الصراعات الداخلية

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5