25/06/2010

 توقفت في المقال السابق عند نقطة “الرغبة الجنسية المتبادلة مابين الأم-الابن” الناتجة عن عقدة خوف من فقدان العضو الذكري للابن، أما بالنسبة للأم، فهي حالة تعويض للميزات الممنوحة للابن من قبل جماعته .

إذا تعمقنا في الأساطير نجد أن هذه العقدة أساس جوهري لعلاقة الأم-الابن العاكسة لرغبة  و محاولة تعويض متبادلة، لهذا نستطيع أن نقول ان الآلهة، الشياطين و الأخلاق نبعت من هذه العلاقة المتشابكة بينهما.

 ربما كان تركيز كثير من اختصاصيي النفس على علاقة الأب-الابن والواضحة في كثير من الأساطير، كونهم يرون ويدركون الخارج والمحيط من خلال نظرة ذكورية. وهذا شيئ طبيعي لأن إدراكنا ناتج عن “الأنا” الفردية، فمهما حاولنا الابتعاد عنها، إلا أننا نقع دائماً في فخها بنسب متفاوتة، لهذا أرى ومن نظرة أنثوية وجوب التعمق في الأساطير مجدداً وإدراكها بشكل مختلف  مع الارتكاز بالطبع على المفاهيم السابقة دون تبنيها بشكل كامل، بل محاولة إعادة وبناء الفرضيات مجدداً، فمن وجهة نظري، أجد أن العلاقة القائمة على التنافس والاسترضاء ما بين الأب-الابن ناتجة عن علاقة وطيدة حميمية مرتكزة على رغبة جنسية متبادلة مقموعة ما بين الأم وابنها.

في أسطورة لقبيلة “أندامان”، نجد أن مسبب الجريمة أو الخطيئة الاولى هما امرأتان قامتا بسحق النباتات تحت تأثير أشعة الشمس. يعتبر “روهيم” ان أشعة الشمس القوية الموجودة في هذه الأسطورة تعكس حالة الرغبة الجنسية لدى الأنثى تجاه الذكر، وبشكل أصح، تجاه القضيب الذكري، لينتج عنه عصيان لما هو محرم. أي يمكننا القول ان الأم قد مارست الجنس بشكل فعلي مع ابنها، وقامت بعصيان لما حرمته الجماعة عليها والناتج عن تمرد الابن في المرحلة الأبوية له ليقوم بتصعيد الغرائز الجنسية خدمة له وإشباعاً لرغبات نفسية عديدة. ويتجلى هذا في أول تحريم للعلاقات الجنسية التي أصابت علاقة الأم بابنها، مما يوضع لنا انعكاس رغبة وظمأ أولي شديد من الأم تجاه ابنها قبل أن تنشأ عنها رغبة متبادلة من الابن تجاه أمه.

إذن، علاقة الأب-الابن وما نتج عنها هي نتيجة لعلاقة أقدم وأقوى وأكثر تعقيداً وهي علاقة الأم-الابن. كما نرى هذه العلاقة متجسدة بشكل واضح في أسطورة أخرى لنفس القبيلة عند إبادة الأم الأولى البشرية كاملة انتقاماَ لموت ابنها ” السحلية”، والسحلية هنا ترمز إلى القضيب وذلك لقدرتها على تجديد أعضائها المفقودة، وبهذا يتمكن الذكر من الانتصار على خوفه من فقدان عضوه الذكري من خلال تجديده ونفي هذه العقدة.

اتفق كثير من الأنتربولوجيين على أن طوطم النبات و تحريمه يرمز إلى العلاقة الجنسية المحرمة، فكل نوع نباتي يرمز إلى فعل جنسي،  أي اننا نستطيع القول إن الأخلاق و المحرمات والشرائع مرتكزة على العلاقة الجنسية والأعضاء التناسلية. و بقول آخر، نستطيع القول إن إله اليوم المعبود من كثير من البشر مهما اختلفت دياناتهم هو نتيجة لعلاقة جنسية متشابكة ومتداخلة في نفس الوقت والتي خضعت إلى تناقضات الحالة النفسية الفردية ومن ثم الجماعية، أي أن الإله هو نتيجة  لعلاقة قديمة محرمة وهي علاقة الأم-الابن.

نجد مكاناً واسعاً في الأساطير الطوطمية للأم الأولى التي حرمت كثير من النباتات على أفراد القبيلة وأباحت لنفسها أكلها، وكما قلنا ان أكل النبات يرمز إلى فعل جنسي.

لكن علينا التساؤل عن كيفية انتقال هذه الإباحة الجنسية للأنثى، أو للأم الأولى و من ثم إلى الذكر؟

أعتقد شخصياً أن الانتقال قد تم بواسطة الابن الذي استغل ضعف غريزة الأم تجاهه ليتمرد على سطوة أمه من خلال ايجاد قوانين أخلاقية وروادع لهذا الليبيدو الانثوي، واضطراره إلى تقمص دور الأنا الأعلى أو الدور الأخلاقي، لهذا نرى آثار الرغبة الجنسية للأبناء تجاه أمهاتهم والخوف من فقدان أعضائهم الذكورية التي يمكن للأب قطعها في حالة ظهور هذه الرغبة بشكل واضح. اي أن الابن والذي بدوره سيلعب يوماً من الأيام دور الأب، فضل قمع رغبته الجنسية تجاه الأم والتي تمثل هي أيضاً الأنثى بشكلها العام لصالح الأب، أي لصالحه شخصياً في المستقبل. يمكننا التعبير بشكل آخر، فضل الذكر المصالح المستقبلية عن مصالحه الآنية، وبما ان الأم حالة مستقبلية لحالة الأنثى الابنة، فقد فضلت هي أيضاً المصلحة البعيدة عن المصلحة القريبة، وبدأت بمساعدة ابنها للتمكن من السيطرة و انتقال السطوة إليه.

علينا أن نعلم بأن عملية انتقال السطوة وتقمص الذكر للقوانين والأخلاق لم تمر بشكل هادئ، بل خضعت هي أيضاً لعراكات نفسية عديدة يعيشها الاثنان (الأم والابن)، ولتمكين هذه الحالة الذكورية المبنية على المصلحة البعيدة لكليهما، كان و لا بد من ترسيخها من خلال مفاهيم دينية رادعة لأية محاولة تمرد، لهذا نجد أن الإله نفسه يعاني من تناقضات كثيرة تعكس الحالة البدائية للعلاقة الجنسية الاولى ما بين الأم و ابنها. ومن هنا نجد أن بعض الأديان ركزت على هذه العلاقة و خصت الأم بمكانة تفوق مكانة الأب، ولهذا تحلم الأنثى و خصوصاً الأنثى الخاضعة لهذه القوانين والأديان بإنجاب طفلاً ذكراً، وذلك لاسترجاع مكانتها المفقودة.

و لهذا لاعجب أبداً أن كثير من القبائل الأصلية وبعض الأديان قد قامت بتحريم الزواج من نساء عدة، فهي  مرتكزة على علاقة الطفل بأمه والرغبة في العودة الى الطفولة عند التصاقه بامرأة واحدة، أي تكرار الحالة الطفولية ثانية. ولهذا لا عجب أيضاً أن نراها عند بعض فصائل القردة والتي فضلت التزاوج الأحادي.

نعود إلى القبائل التابعة لنظام التزاوج الأحادي، فنجد أن أسسها قائمة على ثالوث الأم-الطفل-الأب، وتقديس العلاقة الزوجية بعد مجيئ الطفل. هذه العلاقة نجدها في الدين المسيحي مع استبدال الأم بالروح القدس، وهذا يعكس بالطبع تراجع مكانة الأنثى وبالأخص مكانة الأم في هذه المجتمعات في ذلك العهد (طبعاً لم تتحسن مكانة الأنثى حالياً في هذه المجتمعات نتيجة للموروث التاريخي الثقافي والديني).

إذن، يعكس الإله عملية التصعيد للذكر الشافي لحالة عقدة الذنب الناتجة عن علاقة جنسية محرمة ما بين الأم-الابن، بينما تعكس الشياطين والعفاريت الحالة الأصلية للدوافع الجنسية-العنيفة للطفل، حسب تحليل مختصي الانتربولوجيا النفسي، والتي برهن عليها أطباء نفسيون كثر من خلال متابعات اكلينيكية لأطفال عدة، والتي تتلخص برغبة الطفل باختراق جسد أمه، والمولدة لحالة القلق النفسي لديه، هذه الحالة المؤثرة على الطفل تجعله يهرب منها من خلال المخيلات الحائكة لقصص الجن والعفاريت والشياطين.

المصدر : الدين … واسقاطات الغرائز الطفولية – الجزء الثاني

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5