30/05/2010
في غالبية الأحيان يتم التعرف على الأفكار المختلفة لفهمها من خلال توافقها وتطابقها مع مفاهيمنا الشخصية -فمثلاً- عند التعرف على وجه ما و معرفة درجة صلته بنا، حيث يتم ذلك عبر المنطقة اللحائية للدماغ لتقديم هوية الشخص المعني، بينما تقوم منطقة أخرى في الدماغ باستخراج معلومات القرابة أو الصلة، وذلك عبر عمل مشترك للمنطقتين من خلال الألياف اللحائية التي تمد وتغذي التدفق الواعي للمعطيات.
من هنا نستطيع القول إن استيعابنا أو إدراكنا للأمور الخارجية المرسلة من الذوات الأخرى، عبارة عن “أنوات” صدامية أو متوافقة فيما بينها، فإذا تمعنا قليلاً في تداول “الأنا” الشخصي للنصوص والكلمات والعبارات، نراها ترتكز و بالتحديد على القاعدة البيولوجية أولاً، ومن ثم على المعلومات والتجارب المخزنة في ذاكرتنا الطويلة، والتي تعكس اختلاف كل منا.
أي نستطيع القول ان فهمنا وتعاطينا مع الأمور يتم من خلال “الأنا” المركبة و التي لا تخلو من الخيال. فلا يمكننا أن ندعي بموضوعية الأمور بنسبة كاملة، انما ما يمكننا عمله هو محاولة تداول أي فكر أو مفهموم خارجي أو غريب عن الأسس البنيوية للادراك الانوي من خلال تحجيم “الانا” الفردية للسعي وراء المعرفة و الاكتشاف.
بالطبع يختلف النموذج الانوي حسب الثقافات و المجتمعات، و هذا ما لقبه الانتربولوجيون ب” النموذج الثقافي”، فقد لوحظ ان الافراد الذين يتداولون نصوصاً مختلفة عن ثقافاتهم، يصعب عليهم فهمها، فيضطرون للجوء الى بناء النص من جديد، كي يقوموا بإعطائه مفاهيماً مختلفة عنه ليتناسب مع مفهومهم الثقافي، او في بعض الاحيان يقومون برفضه و رميه و ذلك لصعوبة تداولهم معه.
بناءً عليه، اعتقد الاختصاصي بعلم النفس “فريدريك بارتيليت” بوجود مخططات مختلفة في دماغ الانسان، هذا المخطط يتشكل من خلال الغرائز، و التي تلعب الدور الريادي، ليأتي بعدها عامل المثل و الاخلاق الاجتماعية المختلفة بين مجتمع و آخر، و لا ننسى ايضاً دور المصالح التي تلعب دوراً هاماً في تشكيل هذا النموذج الثقافي على حد تعبير الانتربولوجيين.
اخترت هذه المقدمة محاولة مني شرح بعض آليات التجاوب و التعاطي عند الافراد لما هو مختلف عن تفكيرهم، سعياً لتفسير حالة عدم الاصغاء، او عدم فهم ما يريد الاخر إرساله.
شخصياً، اعتقد ان الامر مرتبط بحالة انوية، فعند تخلينا نوعاً ما عن “الانا” الساعية دوماً لتأكيد نفسها، و عند تعلمنا ان “الانا” المختلفة ليست بالضرورة حالة الغاء لشخصنا، بل يمكنها ان تكون مكملة، كي نستطيع ملء الفراغات الواسعة علنا يوماً ما نستطيع التوصل الى ادراك اكبر و تجانس مع “الانا” الاخرى ليتم بعدها التناغم مع كافة الاجناس الحية و مع الطبيعة نفسها، و ربما نستطيع بعدها التصالح مع غريزة الموت لمعانقة الحرية و العودة الى المادة اللاحية حيث الراحة، و انعدام الوعي، و الكف عن الصراع الوجودي، و من اجل التصالح معه، ارى انه من الافضل ان نبحث عن الانتصار على الالم، فالموت يمثل لنا الخوف و القلق من الالم و الفناء، و هدفنا ليس الانتصار على الموت بل الحياة و الموت من دون الم، لهذا اجد ان المحاولات الهادفة لتقليل مبدأ الهيمنة، و الخروج من دائرة الصراع المدعومة من “الانا” تصب في مبدأ الحرية نفسها.
ربما يكون لكلماتي صدى مختلف عما اريد ان اعبر عنه، الا انني اؤمن بجميع المحاولات الفردية دون الوقوع في فخ الصواب، فنحن جميعاً ننتفس من هذه الذات ، و نعارك لاثبات “الانا” سعياً منا الى تحسين الحالة اليومية و التي تغذي حالة الهيمنة على الآخر، انه مبدأ الواقع المتعارض مع غرائزنا و الداعم لتأجيل مبدأ اللذة من اجل التصعيد الحضاري.
لكن علينا طرح السؤال التالي، الا يصب التصعيد بشكل او بآخر في خانة “الانا”، ليعززها و ليحرفها عن جميع الابعاد التاريخية و الغريزية؟ اي بمعنى اخر، اعتقد ان التسامي و التصعيد من دون وعي للامور الخارجية لا يمكنه الا ان يؤجج حالة انحصار في الرؤى و المفاهيم. الم تأتينا الاساطير، و الاديان، و الايدلوجيات من اجل التصعيد بشكل لاواعي لدى الافراد و المجتمعات حتى اصبحنا قطيعاً لا يفقه معنى التجارب المختبئة وراء العبارات و الكلمات؟
اذا دققنا النظر اكثر، نجد ان جميع المنغلقين على مفاهيمهم و ثقافاتهم، (هنا اعني الثقافة بشكل شامل)، يعانون من فهم الافكار المطروحة المختلفة عنهم، و الانجراف وراء كلمات براقة لا يعوها و لا يشعروها، لهذا نرى الانفصام ما بين سلوكياتهم و اقوالهم.
نعم، جميعنا نقع في فخ “الانا” العارفة لكل شيئ، الا اننا و بفضل وعينا المتراكم و محاولاتنا الجدية لاستقبال الافكار، نستطيع ان نحجم هذه “الانا”، و بتحجميها يمكننا الانطلاق عبر مسافات شاسعة لادراك الاخر، و عند اختراق الجدار الفاصل بين “الانوات” نستطيع امتصاص الذوات الاخرى لاكتساب ادراك اوسع.
ما يتوجب عمله اليوم، هو نبش جميع التجارب الفردية، و الجماعية، و القيام بعملية تصالح ما بين مبدأ الواقع مع مبدأ اللذة و الغرائز، و هذا لا يتم الا بعد السفر و التجوال في الماضي، و الادراك ان الصواب متواجد في كل فرضية، و في كل تجربة انسانية، انه مفهوم التكامل و ليس الالغاء.
قبل ان انهي مقالي، اود لفت الانتباه الى تضخيم “الانا” المتواجد عند جميع الافراد و المجتمعات، الا اننا نلمسه بشكل واضح في مجتمعاتنا، حيث نرى ظاهرة الاستخفاف بالآخر و بمحاولاته الجدية الهادفة على الاقل للتعبير عن ذات فردية، او ليس من الاجدر بنا الابتعاد عن حالة تقييم الافراد؟ من الجميل تبني هذا القول كلامياً، الا انه من الامتع ان نتبناه فعلياً.
من السهل جداً الوقوع في فخ “الانا” و الركض وراء طعن الافكار التي لا تلائم مسارنا، و هنا علينا الحذر و الابتعاد عن هذا الفخ، و الاقتناع ان المعرفة لا تأتي الا بعد توسيع ادراكنا و الحد من رغباتنا الذاتية الصغيرة.
المصدر: عداء-الأنا-للحرية