21/06/2010

 نستطيع القول إن التخيلات التي تجتاحنا عبارة عن ثمرة لصور عقلية وجدت للتعويض عن خيبات امل أو قلق نفسي. ومن هذه الخيالات الحرة والمنعتقة من كل الموانع والتابوهات الخارجية، ولدت القصص الخيالية لتأخذ يوماً ما منعطفاً مؤثراً على حياتنا وطريقة تفكيرنا فتتحول إلى وحوش وآلهة وشياطين.

ولكن من اين نبعت هذه الصور الخيالية العقلية؟

بين لنا علم الأنتربولوجيا النفسي ينبوع هذه القصص المرتكزة بشكل أساسي على الطفولة، فمع احتياج الطفل إلى الخارج والمترافق لشعور عدم الاستقرار والحذر، فمنهما يلد القلق والعنف النفسي تجاه الآخر. هذه المشاعر تتجلى بوضوح من خلال الأحلام أحياناً، وأحياناً من خلال الجلسات الاستشفائية لمرضى العصاب، إلا أنه بالتأكيد يمكننا رؤيتها بشكل واضح من خلال الآساطير والقصص الخيالية والأديان و الآلهة أجمع.

نعود اذاً إلى الحالة الطفولية والتي منها نشأت الصور الخيالية والتي تحولت مع الزمن إلى ديانات اسطورية. بالطبع علينا النظر اليها بشكل واقعي، أي خارج دائرة المشاعر المتراكمة والمتوالدة لدينا من خلال التلقين والحشو الفكري عبر الزمن.

 من المؤكد اننا لا نستطيع أن ننسب ظهور الأديان والآلهة إلى عامل واحد، فلا يوجد عامل فردي واحد بل عدة عوامل مؤثرة تنتقل وتتفاعل ما بين الفرد والجماعة. وبتعبير أدق، تتفاعل هذه العوامل النفسية الفردية مع المؤثرات الجينية الجماعية البيئية، أي أن الأديان عبارة عن حصيلة نفسية بدأت عند نشوء الكوارث الطبيعية وتأثر الكائنات الحية بها إلى يوم ظهور الانسان وتطوره تدريجياً.

كثيراً ما يستهجن البعض من فرضية انتقال هذه المعاناة والمؤثرات نفسياً عبر الأجيال، وخصوصاً ان العلم مازال إلى يومنا هذا عاجز عن اعطاء الآلية الموثوقة لتوارث هذه المعاناة والتي بنيت عليها فرضيات كثيرة، إلا ان ما أعجب له هو تبني الحجج العلمية الناقضة لهذه الفرضيات من خلال أفراد ومؤسسات تعتقد بما هو خارج عن العقل والمألوف. أي استطيع تفهم نظرة علمية مناقضة لهذه الأسس بحجة عدم التوصل إلى نتيجة تجريبية تتيح لنا معرفة الآلية الخاصة لها، أما ما لا أستطيع فهمه هو عند تبني أفراد وجماعات يتنفسون ويعيشون في الخرافة نفسها، يخشون الشياطين والآلهة ويقتنعون بالغيب والمكتوب، ليأتوا متبرجين بحجج علمية لا يفقهون منها شياً سوى للنقض ولاثبات خرافاتهم.

 لا نستطيع تلقيب هؤلاء الأفراد، أو الجماعات إلا بماكينات ناسخة للمعلومة الملقنة، ليس هذا فحسب، بل نستطيع لمس عجزهم عن الاحساس الغريزي الجنسي من خلال سلوكياتهم وأفكارهم وأخلاقهم.

هؤلاء عاجزون عن النظر والإدراك  إلا من خلال ما حرمه إله فاقد للذكورية محاولاً تعويضها من خلال سطوة ذكورية قائمة على سحق الأنثى.

 دعونا نبحر في أصول الآلهة والشياطين، لفهم انقسام الخير عن الشر، والآتية كلها من الغريزة الجنسية، فنجد أن تحريم الغريزة وتشويهها أمر لا بد منه من أجل سيطرة الخرافة على عقول البشر، وللوصول إلى سلامة عقلية، علينا الغوص في ينابيع الاساطير والتصالح مع غرائزنا.

لنسافر الآن في ترهات الأساطير عند القبائل الاسترالية، ولنتوقف عند قبيلة “اندامانيز” لنستشف الفحوى المختبئ ما وراء اساطيرهم، وعلى حد تعبير “روهيم” ترتكز اسطورتهم  على الأب الأول “بولوجا” ورغبته الجنسية المقتصرة على ذاته في ممارسة الجنس مع النساء، سواء كنّ امهات أو أخوات، ومعاقبة كل من يتجرأ على اقامة أية علاقة معهن، إما بخصيه أو زج عنقه… إلا انه مع مرور الزمن استطاع ذكور القبيلة من الأخوة قتل الأب “بولوجا” ليحلوا مكانه و ليأسسوا تشريعات خاصة بهم، وهنا نلاحظ أن صورة قتل الابن لأباه تتكرر في كثير من الأساطير والتي على أساسها وضع “فرويد” فرضيته لركائز الأخلاق والقائمة على عقدة الذنب والمصالحة مع الجريمة الأولى، ليتم منع الممارسة الجنسية بين الأمهات وأولادهن ومن ثم بين الأخوة والأخوات.

 لنتمعن قليلاً في هذه الاساطير والتي تدلنا على ان الرغبة الجنسية للأبناء تجاه أمهاتهن، ربما تكون نتيجة رغبة متبادلة ما بين الأم وابنها، فالحمل العجائبي للأم من دون الجماع المباشر مع ابنها نجده في كثير من الاساطير الطوطمية والاغريقية وغيرها، والذي يعكس الجماع المباشر المحرم.

لهذا يحق لنا التساؤل عن هذه العلاقة المتميزة ما بين الأم وابنها، والتي أصابها أول تحريم جنسي قبل تحريمه ما بين الأخوة والأخوات، و من ثم ما بين الأب وابنته. صحيح انه يمكننا القول إن عدم معرفة الأب بدوره في الانجاب ساهم في تأخير عملية التحريم، إلا أننا ندرك من خلال علم النفس التحليلي للاساطير والمعتمد تجريبياً على تحليل العصابيين، ان عقدة الخوف الأولى للذكر هي فقدانه عضوه عند ممارسته الجنس، أي الخوف من العضو التناسلي الانثوي واعتباره قادراً على الاحتفاظ الدائم بالعضو الذكري من خلال بتره، كما ان رغبة الذكر الابن بالعودة إلى رحم أمه يعكس لنا المشاعر المتناقضة مابين الرغبة في الجماع والخوف منه في آن واحد.

في اسطورة “بيليكو” الانثى الأم، والتي ترمز إلى الحماية والخطر، نجد ان “تاراي” الزوج-الابن أقل شأناً منها، ومكملاً لها من جهة اخرى.

إذن، علاقة الأم-الابن الحميمية تعكس نوعاً ما رغبة في الجماع المتبادلة وحالة تصعيد هذه الرغبة في آن واحد، لنرى ان الذكر تبنى مسألة التصعيد، أي أن دور الأنا الأعلى حسب المفهوم الفرويدي، والمتقمص لدور الأخلاق والآلهة، بينما تعكس الانثى الليبيدو الحر والعودة إلى الغريزة الأصلية، ولهذا السبب ربما، نجد أن الديانات الروحانية قامت في إعطاء صفة الغانية للمرأة.

يمكننا أن نقول إن تهميش الانثى وتحديدها ضمن مهمة الانجاب وحرمانها أيضاً من الإشباع الغرائزي يعود إلى علاقة الابن بأمه والخوف منها في نفس الوقت والناتج عن تسلط الأم ورغبتها بالتعويض عن حالة التهميش الممارسة عليها من قبل جماعتها .

المصدر : الدين … واسقاطات الغرائز الطفولية _ الجزء الاول

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5