23/08/2010

 أستهل هذا المقال بمقولة معروفة “من التعاليم الأولى للإنسان، هو أن لا يتبع الفرد أي مبدأ بشكل أعمى و قطيعي، وأن لا يدافع عن أية فكرة أو معتقد… من دون قناعة فردية واضحة”،إلا أنني سأضيف عليها، على الفرد إدراك حدود معرفته مهما زادت، و الابتعاد عن الأحكام القائمة على “الأنا”  العارفة والمدركة و التخلي عن التعنت والتشبث بأفكاره المرتكزة على تجاربه الفردية وتجارب محيطه، ليتمكن من ازدياد معرفته، فيحلق بعيداً في فضاءات واسعة من التفكير، ليستمتع بشكل واع لحرية خلاقة ليس لها حدود.

بعد كم من الرسائل التي وصلتني والتي (اتهمتني) بالفرويدية، أخصص هذا المقال لإنصاف بعض اختصاصي النفس والأعصاب والأنتربولوجيا، والتي استندت عليهم بشكل مكثف في مقالاتي.

صحيح أن كثير من الأفكار الفرويدية أصبحت أسساً لمدارس عديدة في علم النفس، مع معارضة هذه المدارس لبعض النقاط الفرويدية والتي أغرقت فرويد في متاهاتها على حد تعبيرهم، فمثلاً الليبيدو لم يعد حكراً على فرويد، بل أصبح أساساً في فرضيات ونظريات نفسية عديدة، فإذا تمعنا قليلاً في الأبحاث والتجارب العصبية الحديثة، نرى اتفاقاً في بعض النقاط الفرويدية وتعاكساً في بعضها الآخر.

سأخصص مقالاً موسعاً لنقاط الإلتقاء والتعارض بين أفكار فرويد والمدرسة العصبية الحديثة، فمساحة المقالات محدودة، لهذا لا أستطيع الخوض في نقاط كثيرة.

 هدفي الرئيسي في هذا المقال هو تسليط الضوء على عملية إدراك “الأنا” الآخر من دون رفض فوري وعدم الانجرار لترجمة الأقوال المختلفة حسب المعطيات القاموسية “الأنوية”.

ما أثار استهجاني لهذه الرسائل، هو الطعن المباشر لدراسات نفسية وأنتربولوجية التي أستندت عليها في مقالاتي السابقة، ليتم نفيها والصاق طابع فرويدي مبسط عليها، مع  أني حرصت على وضع أسماء المختصين في كل فكرة طرحتها، كي لا يقع بعض القراء في مطب الأحكام ، الرفض والتهجم على كتاباتي بحجة اقتباس أفكار فرويد لإحيائها من جديد.

مما أثار في نفسي تساؤلاً عن سبب عدم وصول الفكرة، لأبدأ أولاً بمحاكمة ذاتية، لكن وجود رسائل أخرى تحتوي على مستوى رفيع من الفهم والادراك، الكاسرة للأنا الضيقة، جعلني أتخلى قليلاً عن محاكمة كتاباتي، مما فتح لي استفساراً عن موطئ الخلل (خصوصاً، أني لا أجد أية مشكلة في ايصال الأفكار والتعاطي المرن مع أفراد ينتمون إلى ثقافات مختلفة، أي غير عربية).

دعونا نركز قليلاً على آلية الإدراك، المبنية على “الأنا” المستندة على أنماط صور عقلية في الدماغ، ليقوم (الدماغ) بمعالجتها من خلال الأحاسيس المتفاعلة مع المعلومات المستمدة من الخارج، أي البيئة، المحيط الجماعي ومن ثم الخيال، ليشكل “الأنا” الفردية.

نعلم أن أسس القارئ العربي مرتكزة على أسس ثابتة، ويعود ذلك، إلى التعاليم الدينية المزروعة في أدمغة الفرد العربي منذ نعومة أظافره. هذه الأسس الآلية تحرم الفرد من غرائزه ومن التغلغل في نفسه، لتحصره ضمن قيم زائفة منافية لتركيبته النفسية، إلا انها تشعل في نفسه رغبة التميز عن الآخر وذلك تعويضاً لما حرمته إياه من خلال الاعتزاز بالدين، فيتم توحد الفرد مع الرمز الديني. وهذا بالطبع لا يقتصر على الأديان فقط، بل يشمل جميع الأيدلوجيات، القوميات والأعراق…

تحد هذه الثقافة الفرد فتجعله جاهزاً لوضع لاصقات محدودة للكلمات، للتعابير والجمل.

 ينشأ عن هذا التعميم  شلل جزئي في التعاطي مع تعابير ومفاهيم جديدة، ليصبح الفرد عاجزاً عن الإبحار في فكره والتغريد بعيداً عن كل القيم الثابتة المغروسة في مخيلته. لهذا نلاحظ أن نفي الفرد لكل ما لا يعرفه هو أمر ناتج عن خلو هذه الأسس من مبدأ النقد والتشكيك، مما يجعل منه فرداً متشبثاً بأرائه، رافضاً لكل جديد، خاضعاً لقوانين الجماعة والإله.

فسر لنا مختص الأعصاب “ليونيل نكاش”، بطريقة تجريبية عصبية حالة التعرف على فرد ما، فأعتبرها عملية خالية من السهولة والبساطة، فهي ليست ناقلة للمعلومات فقط، بل خاضعة بدورها إلى تحضير ذاتي يتم فيها استخدام الخيال والتفسير الذاتي للمتلقي، أي أن عملية التعرف على فرد آخر تخضع إلى نظام جملة من المعتقدات الذاتية والمؤسسة للأنا.

نستطيع القول إن الفرد “المبرمج”، العاجز عن إعادة تركيبة أناه، يقوم بتحديد الكلمات من خلال وضع لاصقة مستمدة من مفاهيمه، ليتم التعميم فتضيع المعاني والمحاولات الهاربة من هذه الدائرة.

مما لا شك فيه أن تغيير المعتقدات التي بنى الفرد عليها حياة كاملةة ليست بعملية سهلة. كما أن صعوبة نسف أناه المقتبس من نموذج الإله العارف المدرك لكل شيئ، تجعل منه فرداً رافضاً لأية فكرة جديدة لم يسبق له قراءتها. فإذا خضنا في التركيبة النفسية للأفراد، نراها خاضعة أولاً لقاعدة بيولوجية، ومن ثم لتأثير ثقافة المحيط الخارجي المتواجدة به.

يصعب علي شرح عملية الادراك بشكل مفصل، والتي استند فيها على أبحاث عصبية حديثة وفرضيات نفسية، في مقال صغير، لهذا خصصت لها قسماً مطولاً لشرحها في كتابي الذي قاربت على إنهائه.

نعود إلى عملية المعرفة والمشكلة الأساسية لدى بعض القراء باللغة العربية، المصرين على صحة ودقة معرفتهم، ليقوموا بتفسير الجمل والعبارات حسب قاموسهم الذاتي من دون أية محاولة منهم في فهم العبارات والأفكار غير المألوفة لديهم. وهذا بالطبع، حسب اعتقادي الشخصي الآني، القابل للتغيير، أن المشكلة الرئيسية تكمن في الأسس والتربية الأساسية لدى الأطفال، المرتكزة على أسس دينية “حقيقية” بالنسبة اليهم، خالية من امكانية التشكيك والنقد. لهذا أجد أن مشكلة الشعوب العربية ذات الأسس الثابتة تدفع الأفراد للتشبث بحقائقهم ومعرفتهم الخاضعة بدورها إلى رقابة دينية، حكومية ومن ثم فردية.

فإذا نظرنا إلى عملية الادراك أو وعي الأفكار، فمن وجهة نظر عصبية، نراها معتمدة على القدرة الفردية والاستعداد الدائم في التشكيك لكل المعتقدات والأسس “الأنا” الفردية، انها عملية دائمة لنفي “الحقيقة”، لنكون على استعداد في تقبل “اللاحقائق” كي نستخرج منها أجزاءا واقعية.

المصدر : الدين المسبب الأول للعجز الإدراكي

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5