01/01/2011

 ما أقدم عليه الشاب التونسي “محمد البوعزيزي” وتمرده العفوي على الأوضاع المزرية في مجتمعه، والتي تبعتها اضرابات ومظاهرات في تونس، تؤكد لنا وجوب اللجوء أحياناً إلى اختيار الموت من أجل مشروع ولادة جديد. ما يحل في تونس اليوم لهو بداية الوعي للحرمان واختيار صائب للعراك من أجل السعي وراء الاشباع والاكتفاء. انها بداية اليقظة التي تأتي بعد غيبوبة طويلة. حالة “البوعزيزي” هي حالة واحدة يتقاسمها شابات وشبان المجتمعات العربية. انه شعور العجز لتحسين الأوضاع وفقدان أدنى الحريات الفردية لصالح طبقة سلطوية لا تعرف إلا لغة التعذيب وانتهاك الحياة والموت في آن واحد.

عندما تقترن الحرية بالموت، وعندما يصبح الوطن عبارة عن جحيم أرضي والذي يقترب إلى المفهوم الخيالي للجحيم عند المؤمنين، ندرك عندئذ ان الحياة قد توقفت قبل البدء في رحلة البحث والاستكشاف فيها والتي تمثل وقود الحياة. كثير منا من يتشبث ويتعلق في هذه الحياة رغم أوضاعهم البائسة، ليرضون بالانسحاق والتقوقع وإلغاء ذاتهم الفردية، لتنحصر المطالب الفردية وتنهمك فقط في إشباع بعض الغرائز الأساسية، ولأن الفرد في هذه المجتمعات يعيش في حالة أدنى من الحالة الحيوانية الأولى، علينا أن نعيد النظر في المفاهيم الأساسية للحياة ربما لنرتقي قليلاً إلى حالة الأنواع الحيوانية الأخرى والتي تعيش بتناغم وتناسب مع الطبيعة.

صارع الإنسان فكرة الموت ولفترات طويلة من خلال لجوئه إلى بناء خيالي لأبدية واهية، فنسي أن يركز ويفعل قواه في البحث عن حياة يستطيع من خلالها الاكتفاء، لهذا تم استبدال الحياة الأرضية بمفهوم الحياة الأبدية كحالة تعويضية، فكلما اقترب الفرد من تحقيق ما يطمح اليه واكتساب حرية أوسع، نراه يتراجع أمام فكرة التعويض، ليتصالح مع مبدأ الموت.

من هنا، علينا إلقاء النظر على حالة الأفراد في المجتمعات العربية والقابعين تحت سلطة الثالوث الأقدس والمتجلي بإله قهار وحاكم متغطرس ومجتمع متقوقع، لنرى ان ما يعانيه الفرد في هذه المجتمعات يشبه وإلى حد كبير جهنم المؤمنين. لذلك يحق لنا التساؤل عن معنى الحياة للأفراد الفاقدين للذة الحياة نفسها؟

مازلت على قناعة أن الحياة والحرية شيئين مترابطين، فهما يتوحدان تحت بند المعرفة وحرية القرارات والمسؤوليات، فبالرغم من اكتسابنا ووعينا المشروط بفعل البيئة والتابع للقيم الخارجية، إلا أننا نستطيع ومن خلال المعلومات والقيم المختلفة أن نستلهم منها أفكاراً جديدة تعبر عن حرية القرار الذاتي في اتباعها أو إضفاء الجديد عليها، ومن هنا تولد المسؤولية تجاه قراراتنا الحرة. وهذا لا يتوفر إلا من خلال عملية إشباع فردية تبدأ أولاً بإشباع الغرائز الأولية، ومن بعد، ضمن إطار تسلسلي اجتماعي تهب الجماعة للفرد مكافآت تحفزه على الاستمرار تحت غطائها.

نلاحظ أن المكافأة هي التي تقود الفرد إلى الاستسلام للقيم الجماعية والعمل على استمرارها والتضحية من أجلها، فعند اختفاء المكافأة تختفي معها القيم والمعاني التي تلقنها الفرد من خلال جماعته، ومعها يضيع معنى الحياة خصوصاً في ظل هيمنة كاملة للجماعة على الفرد التي تقضي بدورها على المتنفس الأخير للفرد والمتجلي بالخيال الذاتي. من هنا نلاحظ فقدان الفرد لجميع الدوافع الداخلية النابعة من داخله من أجل البحث عن الإشباع والاكتفاء، وكما قال هنري لابوريت لا يمكن الحصول على الاكتفاء إلا من خلال فعل إشباعي، فعند استحالة عملية الاشباع تنشأ الأزمة المتجلية بالعنف عندما تمس فرداً واحداً، أو ثورة عندما تمس طبقة واسعة من المجتمع.

لذلك أرى أنه يحق لنا إعادة صياغة معنى الحياة والموت عند الفرد والمجتمعات العربية، والتي لا تملك أي حق في إشباع أساسياتها الأولية. فهل يمكننا الدفاع عن الحياة في ظل اختفاء المحرك الرئيسي للفرد؟

من وجهة نظري، أجد أن ما يفرق الحياة عن الموت هو ذلك الوعي للحياة والموت و الحرية نفسها، لهذا أعتقد أن الحياة لا تساوي شيئا من دون أجزاء من الحرية، انه الوعي وحرية اتخاذ القرارات التي تناسب عملية الاكتفاء والبحث عنه. لهذا أجد أن مبدأ الانتحار يصب أحيانا في مبدأ الحياة عند وجوده في ظل فكر قمعي ممارس من حاكم متسلط أو ايدلوجية مستبدة أو دين كابح لاكتفاءات الإنسان، فيصبح اختيار الموت عبارة عن ولادة حياة جديدة لآخرين وراحة واختيار قبل كل شيئ للفرد نفسه.

نعلم أن الجماعة أوجدت صيغة الأمان لتحصر الفرد ضمن عباءتها، كما أوجدت صيغاً كثيرة تختلف من مجتمع إلى آخر حسب حدود الحرية المعطاة لأفرادها.

لا شك أن الجماعة ستبقى ذلك المبتكر لمفاهيم جديدة تستطيع استخدامها لنشر مبدأ الهمينة، فجميع الأنظمة الاجتماعية عبارة عن أنظمة مغلقة تدور المعلومات والمعطيات في فلكها الخاص، إلا أنه يتوجب علينا معرفة الدافع و المحرك الرئيسي للعناصر الداخلية لهذا النظام والتي تستمد طاقتها من خلال الإشباع أولاً ومن ثم أمل المحاولة في الاكتفاء ضمن التسلسل الهرمي لهذه الأنظمة، وعند فقدان هذين العاملين يعيش الفرد في جحيم مستمر ليصبح عالقاً ما بين الموت والحياة.

هذه الحالة هي حالة جميع الأفراد في المجتمعات العربية القابعين تحت سلطة الاستبداد بأشكالها المختلفة، لهذا علينا جميعاً أن نبجل أية محاولة فردية أو جماعية تهدف إلى الخلاص مهما اختلفنا مع الطرق المعتمدة .

المصدر : تمرد ” البوعزيزي” بداية مشروع لحياة جديدة

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5