11/01/2011

 استطاعت الأنظمة العربية وعلى مدى عهود أن تقوم بتخدير الوعي عند أفرادها من خلال اتباع أساليب كثيرة كالقمع والبطش ونفي أفرادها إلى خارج البلاد أو إلى داخل تربتها تحت الأرض مع إتباع عملية التهميش بشكل استمراري للأفراد الباقين على أرض تربتها، وذلك من أجل الوصول إلى هدفها النهائي الذي يصب في مبدأ الهيمنة. لهذا نجد تعمد هذه الحكومات على إعدام المعلومات والمعرفة التي لا تتوافق في الأصل مع “مبدأ الهيمنة والطغيان” والحيلولة دون تسربها.

إذا نظرنا إلى ينبوع هذه الرغبة الجامحة المتعطشة إلى مد السيطرة على الآخر واستعباده، نجدها حالة تعويض ل”الأنا” القلق الغارق في متاهاته الضيقة، انه “الأنا” الفقير في المعرفة، الجائع لإشباعاته البيولوجية والنفسية والضعيف الهش العاجز عن التقدم ضمن جماعته.

تعيش هذه الأنظمة حالة من حالات العصاب، فنراها تعكس من داخلها السيناريو الدرامي الذي عاشته وعايشته في آن واحد. تستوحي من ثقافتها المحيطة صورة لبطل وهمي اسطوري وتلصقه ب”أناها” العاجز عن التبادل مع الآخر. لهذا نجد أن هذه الأنظمة تحتاج وبشكل مستمر إلى خلق معارك عدة إن كانت على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي إن سمح لها موقعها الجغرافي أو الظروف الجيو-سياسية في ذلك كي تستطيع لف جسدها على أعناق القابعين تحت سلطتها.

يلجأ الاستبداد إلى دعم وتحريك الوحش الديني الاصولي بشكل مستمر ليقوم باستخدامه حسب أغراضه ومنافعه الخاصة عند الضرورة من أجل التخويف والتفزيع، فيكون عصاة لضرب الخصوم قابلة للكسر.

لا شك ان الأنظمة العربية ساعدت ومازالت في استمرار الحركات الأصولية الإسلامية، لترتدي لباساً علمانياً شكلياً، فتوهم نفسها بشرعية كانت قد اغتصبتها. لهذا يحق لهؤلاء الأفراد القابعين تحت ظل حكومات جاهلة منافقة مغذية للأصولية الدينية أن يتمردوا دون وازع فهذا حق كحق البقاء.

وإن كان لابد أن تكون المرحلة الإسلامية الأصولية ثمناً للتحرر من ربقة الاستبداد فلن يكون هذا الثمن أكثر فداحة من سكون القبور التي اسكنتنا داخله تلك الأنظمة المحنطة. فالأفضل لنا أن نمهد بأيدينا لتلك المرحلة القادمة التي نحتسبها ولابد كالحة، من أن ننتقل قصرياً من حالة موات إلى موات آخر سيكون أشد وأدهى ان خطينا اليه بأقدامنا دون استعداد مسبق والعراق يمثل أفضل شاهد لتلك الحالة.

نعلم أن من يحطم جدار الخوف ولو لمرة واحدة يستطيع أن ينتفض جديداً و تكراراً ليحطم جدران قادمة.

تعكس انتفاضة تونس انتفاضة جسد كاد أن يفارق الحياة ليحطم براثن الموت ويؤكد حقه في الحياة ورفض حياة القبر، انها الإرادة الجماعية الرافضة للرحيل. قعندما تنعدم شروط حياة لائقة، ويصبح الفرد متلقياً سلبياً وكبش فداء لصالح تغذية “الأنا” السلطوي الاستبدادي، تصبح مغامرة التغيير ايجابية. لا بل أكثر من ذلك هناك ضرورة حتمية، ولخطوة كهذه لا بد من قتل ذلك التوجس من جديد مجهول نخشى من خلاله قدوم بعبع اسلامي.

ربما لا بد لهذه المجتمعات الخوض في تجربة الدين المتشدد والوقوع في شباك ذلك الوحش الاصولي الديني الذي سيوفر اللقاح لاكتساب مناعة جديدة يمكنها أن تحمي تلك المجتمعات في مراحل قادمة، لتقوم بتأهيلها مستقبلاً في مواجهة الفيروسات الاستبدادية المتنوعة والمتقمصة في رجال الدين والحكام.

جميعنا يحلم بحريات فردية يستطيع الفرد من خلالها التغريد الحر، وهذا لا يتم إلا من خلال إعادة ملكية الفرد لذاته أي إعادة خيار الحياة والموت له، ليتمكن خياله في التجول والسفر كيف ما أراد. هذا الخيال لا يمكنه أن يبدأ بالانتعاش إلا بعد عملية إشباع فردي، ليتغلب بعدها على الحدود الإدراكية الجماعية لثقافة ما، فيجعل من نفسه طائراً محلقاً مسافراً في جميع الثقافات.

وللوصول إلى هذه المرحلة علينا القيام بجملة عمليات إنعاشية واعية للفرد ولواقعه المعزول والمسجون ضمن دائرة ضيقة يصعب عليه التنفس بسهولة. من هنا، لا يمكن لأي فرد يجد في الحرية هدفه النهائي أن يدعم أية سلطة قائمة على قمع الذات والخيال الفردي تحت حجة التخوف من الشيطان الآخر المتمثل بالدين الأصولي.

تعاني مجتمعات كثيرة ومنها المجتمعات العربية من أمراض وهواجس عصابية متمثلة بالخوف من الأصولية والتشدد الديني… ومن أجل التغلب على تلك الظواهر العصابية، والتغلب على نواة الفكر الاستبدادي، على جميع المهتمين تحدي ما نخافه ونخشاه للقضاء على الصور العقلية الدفينة المشحونة بمشاعر القلق المتراكم من الجديد والمجهول.

بعد إلقاء الضوء على نظرية كوبينغ لفولكمان و لازاروس لنتعرف على أداء الفرد داخل وسطه، نجد أن النظرية تؤكد لنا عدم سلبية الفرد تجاه الوسط المحيط، فهو لا يخضع سلباً تجاه الالزامات الخارجية بل يتفاعل معها بنشاط ليتم التلقي الإدراكي ومن ثم التمثيل العقلي للحالة مما يتيح له وضع استراتيجيات للتأقلم، فهناك استراتيجيات متجهة نحو المشكلة وأخرى نحو المشاكل المحرضة للمشكلة.

إذن، نستطيع القول أن حالة التمرد والثورة بكل أشكالها تعبر عن إعلان الفرد عن نفسه بشكل إيجابي بعد فقدانه جميع الحلول والاستراتيجيات من أجل التأقلم أو التغيير الهادئ .

بعد كل حالة سلبية تنبثق اشعاعات ايجابية، فيعلن الأمل عن نفسه بعد كل حالة يأس مستميتة. انها حلقة الموت والحياة المترابطتان بشدة فلا حياة من دون موت ولا نور من دون ظلام.

قرر شعب تونس وبشكل عفوي أن يعود للحياة ثانية وأن ينقض على مصاصي دمائه من خلال القضاء على الخوف والقلق من الموت، ليحيا مجدداً في رحلة التغيير. قرر أن يقوم بالمحاولة الأولى لانتفاضة الوعي و لاكتساب حس المغامرة والجرأة في تحدي المجهول، عله يكون مثلاً حياً لكل المجتمعات الأخرى الرافضة للتغيير والخائفة من الموت والراضخة لأنابيب التنفس الاصطناعي .

المصدر : تونس تحت الإنعاش

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5