19/03/2011

 في وقت تكتظ فيه انتفاضات الشعوب في المنطقة العربية مطالبة بالحرية والعدالة الإجتماعية وإنهاء استبداد واستغلال الأنظمة القمعية لمجتمعاتها، نجد تضارب بين رؤى وأيدلوجيات عدة لمفهوم الحرية. فهناك من يطالب بدولة إسلامية حيث ينظر الإسلام السياسي لنفسه على أنه المشروع الأنسب الملائم لمجتمعات يدين أغلبها بالإسلام، وبذلك يقوم بإلغاء كل من لا يشاركه في معتقداته وفي رؤيته وسياسته المحدودة التي لا تختلف عن الأنظمة المستبدة اللاجمة للتفكير الحر .

ومن أجل تحقيق مشروع الإسلام السياسي تكون البداية بأسلمة الحياة اليومية للمجتمعات والدخول في جميع تفاصيل الحياة اليومية للتمكن من استعباد الفرد واستسلامه لكل ما يفرض عليه من قبل من يلقبون أنفسهم بعلماء الإسلام. فمفهوم الفرد في الإسلام الاجتماعي والسياسي، يعتبر جزءا غير منفصلاً عن الكيان الجماعي، فلا يحق للفرد أية حياة أو قناعة فردية خارجة عن اطارها الجماعي المنصوص عليه. أي لا حرية للفرد خارج النصوص الدينية المسلم بها. أما من ناحية المساواة و العدالة بين الأفراد، فنجدها لا تتناسب مع حقوق غير المسلمين إن كانوا من أصول إسلامية اختارت أن تتبنى منطقاً مختلفاً عن المنطق الديني، أو إن كانوا ينتمون إلى أديان أخرى. ذلك ان الإسلام السياسي قام بتقسيم العالم إلى قسمين: الأول و هو عالم المسلمين؛ والثاني هو عالم غير المسلمين والذي يتوجب على المسلمين اخضاعهم لنفوذهم وهذا ما نسميه بالإسلام السلفي أو الأصولي الذي لا يعترف بحق الآخر المختلف عنه. وهنا أيضاً نجد عدم توافق منظومة الحقوق التي يتبناها الإسلام السياسي مع حقوق من يختلف عنهم.

دعونا ننظر الآن إلى الأيدلوجيات الأخرى والتي تفتقد لقاعدة شعبية كبيرة، مثل القوميين العرب، فهم أيضاً لا يمتلكون المكون النظري الملائم لتطبيق العدالة والمساواة بين الجماعات الأثنية المختلفة عنهم، فشعاراتهم تقوم بإلغاء أثتيات وأعراق مختلفة تتواجد في هذه المنطقة. فالأكراد والأمازيغ وغيرهم، لهم الحق بالتمتع والممارسة لخصائصهم وموروثهم الثقافي ولغتهم المختلفة.

قبل التطرق لمفهوم الحريات والعدالة، دعونا ننظر إلى العناصر المختلفة التي تجمع الأفراد في مجتمع واحد لتوحدهم تحت ثقافة معينة شاملة لجميع أطياف المجتمع دون أي تمييز، هذه الثقافة الجماعية تمتلك مكونات عقلية أو بتعبير آخر “الكون العقلي”، كما تشمل أيضاً مبادئاً ورموزاً ومصالحاً مشتركة لتقوم بتوحيد الأفراد في مجتمع ما و تخلق لديهم شعور بالترابط والتواصل فيما بينهم.

لكن قبل كل شيئ، علينا أن نتساءل عن “الكون العقلي” أو المكونات العقلية الجماعية التي تجمع الأفراد فيما بينها.

تعتبر المكونات العقلية مجموعة صور وأفكار وكلمات متداولة بشكل عفوي ويومي، أي انها جميع الصور العقلية المسجلة في ذاكرتنا الجماعية الطويلة والتي نبدأ بتخزينها منذ ولادتنا عن طريق التلقين الخارجي حيث لا نستطيع أن نتحكم بالعناصر المختزنة ولا بتوقيت ظهورها. وهذا ما يحدث تماماً عند تكرارنا الآلي لشعارات أيدولوجية أو ظهور العوارض الدينية بشكل فجائي عند بعض الأفراد ليتم تحولهم من متدينين متسامحين إلى مقاتلين مجاهدين في سبيل الله. لا يعني هذا الكلام اننا أمام حالة استعصاء وعجز كامل أمام جميع الصور التي تبنيناها من الخارج، لأن حفظ المعلومة في الذاكرة الطويلة واستحضارها فيما بعد يتطلب منا موافقة ضمنية على المحتوى العام لها، فيمكننا استحضار الكثير من التمثيلات العقلية المختزنة وطرحها من جديد بشكل واع كي يتم قبولها أو رفضها مجدداً. وهذا لا يتم إلا من خلال توافر قوانين تتيح للفرد التفكير والتعبير عن أفكاره بحرية تامة مع اعطائه الأحقية في ممارسة النقد لكل شيئ، وهذا ما يسمى بالمساحة الحرة المتوافرة في المحيط الخارجي؛ أما الشق الثاني فهو نابع من الذات ومن المساحة الحرة الداخلية لكل فرد. فلكل إنسان قوانينه الخاصة المستقلة ومصلحته الفردية على شرط ان لا تتعارض مع المصالح الفردية الأخرى. لهذا نستطيع أن نقول إن سعينا لإيجاد مصالح مشتركة بين الأفراد أو بين المجتمعات يشكل عاملاً اضافياً في استيعاب الآخر وتقبله.

تعتبر الحياة الإجتماعية مزيجاً من تركيبات نفسية متعارضة فيما بينها، فمنها رغبة التنافس مع الآخر والتي تعتبر القاعدة الأساسية للتطور؛ ومن ناحية ثانية، هناك الميل للتعاون مع الآخر والذي يعتبر أساساً لنمو المجتمع واستقرار وحدته.

إذن، نلاحظ أن المصلحة هي أساس الاستمرار، إلا أن المصلحة نفسها تعتمد أيضاً على عامل الذكاء لإيجاد أخلاقيات تضمن حقوق الجميع دون تمييز، فإذا أردنا أن نقوم بتفسير الذكاء، نستطيع أن نقول عنه كما وصفه اخصائي النفس غاستون فيون على أنه الفهم والقدرة على الاكتشاف والابتكار.

إذن، الفهم أو بمعنى آخر الوعي لكل ما يحيط بنا من الخارج مع إدراك التركيبة النفسية و تفاعلاتها يعتبر أساساً لإدراك الآخر من أجل ابتكار ركائز جديدة تجمعنا فيما بيننا، وهذا يعتمد على القدرة في ابتكار مصالح مشتركة بين الأفراد وبين المجتمعات المختلفة. لا يتم هذا الشيءإلا من خلال معرفة أوسع تقوم أولاً بكسر جميع الحواجز دينية كانت أم أيدولوجية لتعزيز فكرة الاختلاف. فنجد مثلاً أن القوميات تعزز أحقيتها أمام المختلف القومي، والوطنيات ترتكز على اختلاف المجتمعات وتميزها، كما تعزز العصبيات العائلية اختلاف العائلات على أساس مالي أو وجاهي. وكذلك الأمر فإن الأديان تعزز فكرة شعب الله المختار مع تغيير طفيف في هذه العبارة، فالمسلم يحمد نفسه على نعمة الإسلام والمسيحي ينظر لنفسه كإبن وحبيب للإله واليهودي اصطفاه الله دون غيره…

جميع هذه المفاهيم تقوم على فكرة التمييز القائمة على اعطاء نفسها أحقية استبداد الآخر وتهميشه، والتي لا تتناسب مع مفهوم المساحة الحرة للأفراد ومفهوم المساواة أمام القانون. من هنا نستطيع القول ان طريق الحرية يبدأ من خلال المعرفة والوعي المتعارض تماماً مع مبدأ الإسلام السياسي في هذه المنطقة ومع مبدأ القوميات.

إذن، الحرية تبدأ من خلال استقلالية تامة في عملية التفكير الغير خاضع لتمثيلات عقلية مختزنة من قبل جهة معينة ولهدف محدد. وربما يستوجب علينا استبدال الحرية والمساواة على حد تعبير هنري لابوريت بالوعي والمعرفة، فهما مفتاح التسامح والتواصل بين أفراد المجتمع وبين مجتمعات عدة. و لربما نستطيع، يوماً ما، الوصول إلى مفهوم إنساني يمكنه تجاوز الإنتماءات الجغرافية، ولربما نتمكن أيضاً، يوماً ما، من تجاوز المفهوم الإنساني الضيق ليستوعب مفهوماً جديداً يشمل جميع الكائنات الحية والاعتراف بحقهم في هذه الحياة .

المصدر : الإسلام السياسي والأيدلوجيات وجهان للاستبداد

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5