14/04/2011

 لا شك أن هناك اختلاف في الهيكلة الثقافية والموروث التاريخي لكل بلد عربي، ولكن مما لا شك فيه أن الأنظمة التوليتارية تكرر ذات آلية في القمع الممارسة على شعوبها، ويعود ذلك لتطابق تلك البنى المستبدة في منشأها وأرضيتها النفسية وعجز إدراكها لكل ما يتجاوز أدواتها القمعية من وسائل. و لا شك أيضاً أن هناك اختلاف في نوع الثورات في أي مكان أو زمان، إلا أننا نستطيع أن نجد تشابه في المحفزات والأهداف الأساسية التي تجمع ما بين جميع تلك الثورات والتي نتجت عن مجهود واع اختمر نتيجة معاناة جماعية متعددة، فإذا نظرنا إلى آلية الثورات نجدها تأتي بعد مراحل من التحضير اللاواعي.

يبدأ الأفراد أولاً بمعاينة مشاكلهم الاجتماعية بشكل واع محاولين ايجاد الطرق المناسبة لحلها من خلال مؤسسات مجتمع مدني في حال وجدوا داخل بلدان تتمتع بحد أدنى من الحريات. أما في حال عدم توافر التنوعية المؤسساتية وتعددية التوجهات الفكرية وتواجد الأفراد داخل هيكلة سياسية تحكم من قبل طاقم أو نظام أحادي التوجه، أي نظام توتاليتاري، حيث يباشر بقمع أية محاولة تبحث عن اكتفاء الذات من خلال طرح المشاكل خارجاً للعثور على الحلول، ليكون جزاء الأفراد أشد العقوبات الجسدية والنفسية من قبل أنظمتهم لتجرأهم على طرح الشحنات الداخلية المتراكمة من فعل التوتر الناتج عن كبت الذات على صعيد حريات التعبير. فالفرد القابع تحت سوط الأنظمة الاستبدادية يعاني من أزمات نفسية حادة، فمن جهة يسعى الإنسان للاقتناع بمسيرة حياته المفروضة عليه من أجل الاستمرارية مما يؤدي إلى استسلام جزئي واعي عند هؤلاء الأفراد. فنراهم يتبنون جميع الادعاءات والشعارات الرنانة التي يبثها إعلام نظامهم الموجه كحالة من التعويض النفسي لنقصان الاكتفاء القادم من الشعور بتحقيق الذات والذي لا يتم إلا من خلال التعبير عن كياناتهم أولاً لتأتي بعدها الإرادة في تطوير الذات.

تلجأ هذه الأنظمة ضمن هذه المنظومة وبهدف النيل من الفرد وجعله مدرعاً ضد رغباته وطموحاته لاستخدام المؤسسات الدينية عبر تغذية التشدد الديني، وذلك للحفاظ على كياناتها. فهي تعلم ان استمراريتها في خنق الأنفاس مرتبطة بانحسار التوعية عند الأفراد. وإذا أخذنا النظام السوري كمثال على هذه الظاهرة وسعيه على مدار عهود طويلة لاستجلاب الدين الأصولي لأرضه وقيامه بنفس الحين بممارسة لعبة مزدوجة تتجلى بانتحاله صبغة العلمانية من خلال قمع بعض العناصر المتطرفة التابعة لأحزاب إسلامية مناهضة له، وفي الآن نفسه، نراه يساهم في نشر ثقافة متطرفة دينية بشكل جماهيري واسع. وبهذا يهاجم أحزاب سياسية ذات قاعدة دينية.

كما نلاحظ محاولة النظام السوري بإتباعه سياسية مزدوجة على الصعيد الخارجي، فهو يجهد في بث معلومات لا صلة لها بالواقع، فيوهم شعبه على انه نظام ممانعة وقلب للعروبة من خلال تكراره لمفردات وإطلاق بعض المواقف الإعلامية، فمن ناحية أخرى، نراه لا يتوانى عن تقديم الكثير من التنازلات الخارجية خدمة لمصلحة بقاءه. كما أنه لعب على تعزيز فكرة المؤامرة من أجل تعويض حالة عدم الاكتفاء عند الفرد من خلال إيهامه بتعظيم شأنه توحيد “أناه” والمسلوب بكيان جماعي يتوحد مع النظام ليتبنى فرضية ترضي هويته، فمفهوم المؤامرة يعطي حالة من الخدر النفسي وتسليماً لواقع يريده هذا النظام.

“نظرية المؤامرة” ليست حكراً على الشعب السوري، فنراها عند كل الشعوب المسلوبة والمغتصبة من قبل حكامها. كما نراها عند بعض أصحاب التوجهات الدينية الرافضين لمواكبة قطار الحياة، “فنظرية المؤامرة” هي الدواء الوحيد للشعوب العاجزة عن إعطاء الجديد والعاجزة عن إدراك المختلف. فمما لا شك فيه أن هناك مصالح لدول و مصالح لشعوب أخرى تتضارب فيما بينها، حيث تسعى كل منها إلى مد هيمنتها على الأخرى. ولكي نستطيع فهم آلية تبني هذه الشعوب لشعارات أنظمتها ومفرداتهم، علينا أن نلقي الضوء على نظرية ترجيح العرض المؤثر لزاجونك والتي تشرح كيفية تبني الإنسان لفكرة معينة كي يقوم بعدها بتغيير سلوكه المتبع. فكلما ازداد التعرض المتكرر لفكرة ما، تحولت هذه الفكرة إلى محفز ذات أثر زمني طويل، ليقوم الدماغ بتوجيه عملية التفضيل تجاه هذا المحفز أو الفكرة المتبناة. أي بعبارة أخرى يمكننا القول إن تكرار تلك الفكرة و اعادتها تجعلها أكثر قبولاً عند متلقيها، فتتحول إلى حقيقة وواقع بالنسبة لهم وخصوصاً عندما تترافق بشحنات عاطفية ومحفزات نفسية(عقوبة ومكافأة) وهنا يصبح الإدراك عاجزاً عن رؤية الواقع بنظرة مختلفة.

كلما توغل نظام ما في استبداديته، نراه يلجأ لإتباع خطوات وآليات تحاكي الآليات العقائدية وذلك بهدف تمكينه من استعباد مكونات المجتمع الذي يحكمه. يمثل النظام السوري نموذجاً جيداً لكل ما ذكرت، فمحاولة تحويل رأس هرم السلطة إلى رمز تتوحد معه الأفراد وتحيا من خلاله ولأجله. فيتم التصاق الأنا الفردية عندهم بذلك الرمز من خلال مشاعر موحدة استطاعت أجهزة النظام إنتاجها، لينتج عن هذا التوحد أحياناً شعوراً بالفردية والتميز عند الفرد نفسه من خلال المميزات والمكافآت (والتي قد لا تتجاوز في كثير من الأحيان فتات الخبز والتي نالها باسترضائه لتلك الأجهزة).

عودة إلى المراحل التحضيرية اللاواعية المؤدية إلى اندلاع الثورات، و بعد عرض بعضاً من الآليات القمعية النفسية الممارسة على الأفراد، وبالرغم من تمكن النظام من تبني الأفراد لها بشكل واع، إلا أن اللاوعي يبقى رافضاً لها باحثاً عن إمكانية الخروج من أزمته، وهذه المرحلة تدعى مرحلة الاختمار اللاواعي والتي تبدأ فيها المعاناة بالانتقال من حالتها الواعية إلى اللاوعي الفردي. وبما انها معاناة يشترك بها الكثير من الأفراد الذين ينتمون إلى وعاء ثقافي واحد، تصبح هذه الحالة اللاوعية حالة جماعية تأخذ منحىً يشبه إلى حد بعيد آليات العلاج بهدف الوصول إلى حلول. فكما نعلم أن اللاوعي يبحث عن حلول دائمة لتخفيف وطأة التوتر الناتج عن المشاكل و طرح الشحنات السلبية المتراكمة بسبب حالة عدم الاكتفاء. فعند ظهور أية عوارض خارجية في المحيط الخارجي، تبدأ الشحنات المتراكمة المكبوتة بالانفجار التدريجي، لتأخذ منحىً جماعياً واعياً باحثاً عن تغيير جذري.

إذن، الثورات عبارة عن مجهود لاواعي تراكمت شحناته ورغباته النفسية المشتركة عند الأفراد، لتتوحد بعدها تلك الرغبات الفردية بشكل واع باحثة عن تغيير شامل دون امتلاك أية نظم سياسية أو اجتماعية لهم. ففي هذه المرحلة الحاسمة يأتي دور المثقفين والمهتمين بالشأن العام لتعزيز تلك الرغبة الجماعية ووضع إطار نظري لهذا الحراك الاجتماعي ليساهم في اجتياز هذه المرحلة الثورية بسلام والمراحل اللاحقة من خلال تهيئة أرضية قائمة على التنوع. ولا شك أيضاً أن الثورات تحرر قوى منافية لأهدافها الأساسية (ما يدعى بالثورة المضادة)، كما رأينا واضحاً في المثال التونسي و المصري، فهجوم القوى الأصولية لركوب هذا الحراك تعتبر محاولة لإجهاض الهدف الرئيسي الذي أسس لهذه الثورة، فيتحول هذا الحراك الباحث عن اكتفاء الذات من خلال ممارسة الفرد لحقوق التعبير والاختيار إلى أداة قمعية جديدة لا تختلف عن سابقتها الممارسة من قبل السلطات القمعية .

المصدر : النظام السوري وفلسفة الاستبداد

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5