15/10/2008

 عاش الإنسان ولفترة طويلة حالة لاواعية، فكان في بحث دائم لتحقيق اكتفاء رغباته الغرائزية، إلا ان حاجة الإنسان إلى الجماعة خوفاً من تعرضه للافتراس من الحيوانات الأخرى ذات المخالب المفترسة، دفعته إلى ابتداء رحلة طويلة مع الوعي الفردي. هذا الوعي الذي يستمد قوانينه وأسسه من الثقافة المحيطة بالأفراد، هدفه منع الغرائز اللاواعية من الظهور. فالثقافة بدأت مع الأعراف والتقاليد للحد من وحشية الإنسان وتنظيم الأفراد بشكل جماعي ليصب هدفها في وعاء المصلحة الجماعية. هذه التقاليد ما هي إلا عبارة عن سلوكيات فردية قد تمت غربلتها من قبل الجماعة على مر الزمن. لتبدأ الجماعة أولاً بابتذال العادات الجنسية الطبيعية من خلال حصرها وتنظيمها على أساس مبدأ أسروي، ثم تحريمها من خلال اساطيرها ومن ثم دياناتها.

أخذت الجماعة على عاتقها حصر الفرد ضمن قوانين معينة، فبدأت فكرة القضاء والعقاب تتبلور من خلال الأعراف للحد من الشعور الفطري عند الإنسان. وبماأن التمرد شعور متمرس في الإنسان، اضطرت الجماعة اضفاء شرعية إلهية أقوى من شرعية التقاليد، للسيطرة عليه من خلال قمع الداخل الغريزي عند الإنسان.

استمد العقاب الإلهي قوانينه من الداخل العميق للإنسان، فالفرد في معركة داخلية ما بين الأنا المتمثل بتنفيذ غرائزه و”الأنا الأعلى” حسب المفهوم الفرويدي الذي يقوم بدور القضاء الداخلي العاكس لثقافة الجماعة وأخلاقياتها  لقمع جميع الرغبات التي لا تتواتى مع أعراف الجماعة. فإذا تجولنا داخل لاوعي الإنسان، نرى ان عقدة الذنب تتشكل من الضغط الناتج عن معركة الأنا مع الأنا الأعلى، لتنتج بعدها حالة من العقاب الداخلي اللاواعي يدفع بالإنسان إلى عقاب ذاته من خلال المعطيات الخارجية. و بما ان الفرد الإنساني لا يدرك ما يجول في أعماقه، لجأ إلى تفسير هذا العقاب بشكل شبه اسطوري، فنسبه إلى خالق يريد معاقبة البشرية على تمردهم، وهكذا يضاف إلى الثقافة وجهاً روحياً أعلى.

إذن، الثقافة هي جميع التقاليد المتعارف عليها من قبل جماعة ما، لتكون القدرة الخارجية التي تستطيع كبح المشاعر العنيفة عند الإنسان.

تختلف الثقافات بين مجتمع لآخر، فالثقافة هي ذاك المتحول في السلوكيات والأخلاق المستندة على درجة تطور الوعي عند الإنسان، من أجل الوصول قيم تتماشى مع مسار الطبيعة، لنبدأ في إيجاد طرق للتعايش المسالم بين البشر وعدم التمييز بين الأعراق. من هنا نجد أن الثقافة متغيرة ومترافقة مع مستوى الوعي الجماعي والفردي المرتكز على تراكم كمية من المعلومات والارشادات لتتحول في مرحلة لاحقة إلى أسس لاواعية لدى الأفراد، ومن ثم تتبلور المعرفة لتكتسب صيفاً وأسساً جديدة .

مما لا شك فيه أن الثقافة استمدت مفاهيماً مختلفة وتلونت مراراً لتناسب في كل مرة زمنها ومفاهيمها، فهي ذاك المتحول الذي لا ينفك عن التغيير. إلا ان هذا المتحول توقف عن الحركة في بعض المجتمعات، فإذا نظرنا إلى مجتمعات الشعوب الشرقية نرى ان الثقافة اقتبست وجهاً إلهياً لتزرع عند أفرادها  شعور بعقدة الذنب تجاه الخالق.

هذه العقدة التي بدأت مع الخطيئة الأولى {ادم وحواء}، كانت محاولة لأسر الجماعة كاملةً تحت غطاء ديني، فظهرت محاولات فردية للتمرد آنذاك من خلال أنبياء عدة هدفهم تخليص البشرية من هذه الخطيئة، إلا ان هذه المحاولات لم تكن مدروسة بشكل واع فوقعت في فخ الأنا الأعلى، لتقوم بترسيخ هذه العقدة بدلاً من القضاء عليها.

استطاع الأنا الأعلى الجماعي السيطرة على جميع هذه المحاولات ليخلق لدى هؤلاء الأنبياء تناقض و شتات واضح بين هدفهم الأول والأخير.

بدأت ثورة الأنبياء للتخلص من عذاب الأنا الأعلى الجماعي الناتج عن شدة وتيرة عقدة الذنب، فجاء المسيح ليعبر عن قسوة القمع فثار أولاً على الثقافة السائدة آنذاك كما ثار سقراط على الثقافة اليونانية. فكان لأفكار سقراط أهمية كبرى في التأثير على الحضارة الأوروبية، لأنها أبعدت الثقافة عن الطبيعة الإلهية، بينما كرس المسيح ثقافة الرادع الإلهي و الشعور بالذنب تجاه الخالق، مع ذلك فقد كانت نهايتهما قاتلة لطرحهما أفكاراً تجديدية.

إذن، نستطيع القول ان الأفراد الثائرين قد جاؤوا من رغبة دفينة جماعية، هذه الرغبة هي التي حركتهم للتمرد على الثقافة المتمثلة بالقوانين السلطوية والجماعية.

و لكن لماذا عرفت حضارات  الشعوب الشرقية بشر من طبيعة إلهية أو أنبياء أكثر من غيرهم؟

هل لأن  الثقافات القديمة التي تواجدت في هذه المنطقة، كانت أكثر قمعاً، لتعبر عن الغرائز اللاواعية عند الإنسان؟

أم ان الأنا الفردي، كان المحرك الأساسي عند هؤلاء الأنبياء، فلجاؤوا إلى تحديد الثقافة لربطها بالخالق ومن ثم بهم؟

لابد من التنبيه ان ربط الثقافة بالخالق، أصبح راسخاً في اللاوعي الإنساني لسكان هذه المنطقة، ليصبح الفرد ومن ثم الجماعة متمسكان تمسكاً غريزياً بالإله، لترتبط وجودية الجماعة والفرد بوجودية الخالق، لينشأ لدينا بتر حتمي لأي محاولة فردية تريد الخروج بالجماعة من قدرها المحتم، وأخيراً لا أستطيع إلا أن أختم هذه المقالة بمقولة لنيتشه “لا يستطيع الإنسان النهوض عالياً إذا استمر في جهله لمصيره”.

المصدر : اقتباس الإله للأنا الأعلى

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5