16/06/2009

 مازلنا نلهث وراء الكلمات والمخطوطات والأساطير لنستكشف تاريخنا المليء بالأسرار فأجمل شيء عند الإنسان هو ذلك الظمأ للمعرفة.

لهذا لا نستطيع التوقف في منتصف الطريق، ولا نستطيع مصالحة الدين مع العلم لأن العلم هو المرحلة المتطورة للإله، فالأديان تستمد نصوصها من حقبات سابقة كالسحر والمانا والطوطم…الخ. هذه النصوص والأساطير التي خطها الإنسان، نشأت من قصص واقعية قام البشر، من بعد، بتضخيمها مما أتاح للإنسان السفر في فضاءات عقله التي لا تتوقف عن الخصوبة.

اليوم وبفضل أفراد توافدوا علينا على مر التاريخ، آمنوا بقدرة الإنسان على تفكيك الألغاز وعلى نسف الثابت من خلال التجارب البشرية التي ما برحت تعيد صيغنا وأساليبنا في لمس ذاك الجوف الانساني المليء بالأسرار.

من هنا لا تستطيع الأديان بسذاجتها أن تملأ هذا الكأس المتعطش في داخلنا وخصوصا بعد تطور العلم بمراحل عديدة. ووجود نظريات مختلفة لا تثبت نظرية الإله ولا تنسف النظريات العلمية بل على العكس، فهي تتيح لنا مجالا أكبر لمصالحة جميع النظريات مع بعضها تحت إطار عام وتلهمنا للوثوب في طيات عقولنا وجيناتنا لنصل إلى مفاهيم وأسس تدفعنا نحو الأمام.

إن بحثنا في هذا الماضي ليس للبكاء على الأطلال وليس لفضول عقيم بل هو ذاك الفضول الباحث والمستكشف للانطلاق نحو معارف جديدة وسيطرة إنسانية على الذات.

لا ينقصنا إلا الايمان في العلم لأنه مرتكز على تجارب وخبرات متراكمة تمت دراستها من قبل الإنسان، ففضل الابتعاد عن مخاوفه النفسية للسيطرة على تفاعلاته الداخلية بقدر الامكان،بينما اعتمدنا من خلال تجربتنا مع الآلهة على وهننا النفسي لنسجن نفسنا في إطار انفعالاتنا، من هنا سأستشهد بما قاله يانغ “إن الإنسان العادي بحاجة إلى آلهة وشياطين بإستثناء الانسان الذكي الذي يموت إلهه ليتحول إلى إله بحد ذاته”..

سأتطرق وبشكل سريع للدوافع التي أدت إلى ظهور الوعي الأخلاقي الذي نشأ من رغبات نفسية فردية تم جمعها وغربلتها لتشكل سلوكيات أخلاقية جماعية تصب في مصلحة الوعاء الجماعي لتتغير هيكلة هذه الأسس عبر الأزمنة والظروف المحيطة بها، فكان للمناخ أيضا تأثيره على الركائز الأخلاقية للشعوب وتطور الثقافات.

اعتبر وندت أن أصل القيم الأخلاقية والقوانين آت من مبدأ التابو فمنبع التابو هو مشاعر الخوف من الطبيعة ومن كل ما لا يستطيع الإنسان فهمه فهو ينبوع الغرائز الأولى، إلا أن التابو انفصل عن المصدر أو الينبوع، ليبقى تأثيره النفسي على الأفراد كما رأى وندت ان المقدس والمدنس في المرحلة الأولى كانا في الاصل واحدا لتشكل التابو، فإذا أمعنا قليلا في الرموز الأسطورية للحضارة الاغريقية، نرى ان استخدام كلمة “ديمون” وهي بالعربية تعني “العفريت” أو “الشيطان” أو “الروح الشريرة”، ونجد في خصائص الديمون مزيجا من صفات إلهية وإنسانية، فموقعه يتعين بين الإله والإنسان، ومن هنا نلاحظ ان الديمون لم يكتسب عند الاغريق مفهوم الشر بل كان قوة تضاهي قوة الانسان وتقل عن الإله.

لنعود الآن لـوندت وما طرحه من تفسير للتابو الجامع ما بين القوة الشيطانية والقوة الحامية، فالتابو أكان غرضا جامدا أو غرضا حيا يمنع الاقتراب منه أو لمسه لحماية الجماعة، وهكذا أصبح قوة مستقلة تؤثر على الأفراد وتفرض عليهم ثقافة معينة. لهذا نرى مشاعر الاشمئزاز والتعظيم للتابو واضحة عند الإنسان البدائي، إلا انه بمرور الزمن انفصلت هاتان القوتان عن بعضهما وأعني بذلك انفصال مشاعر الاشمئزاز عن مشاعر التعظيم.

لكن من أين استمدت هذه المحرمات أو التابو قوتها؟

علينا ألا ننسى أن لاوعي الإنسان في بحث دائم لتلبية رغباته من جهة وقمعها من جهة أخرى، فالاكتفاء الغرائزي مرتبط بالجسد وحاجة الجسد أيضا، ذلك ان التصرف الغرائزي هو تصرف غير ملقن إلا ان الغرائز تمتلك القدرة على تطوير ذاتها من خلال التجربة أو التعليم المرافق لها.

إذن، هذا التصرف هو حالة نضج ما بين ما نتلقاه من خلال الحواس والدوافع لينتج عنه ميكانيكية داخلية تربط الحواس والدوافع والحاجة معا.

من هنا نستطيع القول غن التصرف الغرائزي ليس نتاج تعليمي بل هو حالة نضج عضوية منظمة.

هذا الركض تارة وراء اكتفاء الرغبات وتارة وراء قمعها هو لكفاية الجماعة التي تساهم في تلقين الركائز الاساسية للأفراد من أجل مصلحتها.

لقد رأى فرويد أن أصل التابو هو محرك لاواعي وضعه الإنسان البدائي من الخارج كممنوعات للحد من تصرفاته الغرائزية، فممنوعات التابو الأقدم والأهم تمثل قانونين اساسيين للطوطم وهما:

ـ تحريم قتل الطوطم إن كان حيواناً أو نباتاًَ.

ـ تحريم العلاقات الجنسية بين الأفراد الذين ينتمون إلى طوطم واحد.

استنتج فرويد أن الخوف هو المحرك الأساسي للأخلاق، وكما كان التابو في البدء هو تمثيل لعمل ممنوع فالهدف الأساسي لهذا المنع هو تحديد العلاقات الإنسانية. إذن، التابو ولد من أرضية صدامات مشاعرية.

ينبع الخوف من جهل الإنسان لشيء ما، و هذا ما ساعد في تحويل هذه المشاعر إلى قوة مستقلة تخرج من داخل الإنسان إلى خارجه لتتحكم به وتساهم في استمرارية جهله لها وبالتالي تولد لديه قناعات يعتقدها حقيقية إلى أبعد الحدود فيبقى تائهاً عن معرفة تضارب مشاعره الداخلية ويفقد السيطرة على ذاته، ليتشبث في أبديته، فنراه  يخاف الموت لأن الموت يشكل له هاجس الفناء، هكذا بدأ الإنسان في رحلته العقيمة في البحث جاهداً عن روحه المفقودة.

سأشير هنا إلى أسطورة قديمة تكشف لنا هذا البحث الدائم عما وراء الموت من خلال لحاق الملك “ميداس” بالديمون “سيلين” لمعرفة الشيء الذي يجب على الإنسان تفضيله على جميع الأشياء الموجودة واعتباره قيمة عليا، ليجيبه “سيلين” وبسخرية “يا أيها العرق الفاني والتعيس، يا طفل الصدفة والألم، لماذا تجبرني على البوح عما كان من الأفضل لك جهله؟ إن ما ترغب به أو ما تريد القيام يه لهو صعب المنال، فما كان الأفضل لك هو عدم ولادتك وما كان أفضلاً لك هو مكوثك في العدم. ولكن وبعد كل هذا، يمكنك أن تتمني ما هو أفضل لك، وهو عودتك لهذا العدم وتمني موتك مبكراً”.

من هنا يمكننا التساؤل عن تمسك الإنسان بوهم الروح الخالدة،وما هو السبب الرئيسي الذي أدى إلى خلق هذه الأوهام؟

بحسب التحليل النفسي يبدو أن جهل الإنسان لمناماته وظهور الموتى في الأحلام كان عاملاً كافياً في ترسيخ فكرة أبدية الأرواح، فبدأت الصلاة للأموات من باب الخوف أولاً ليكتسب صفة احترام الموتى الناتج من رعبه وقلقه من انتقام الأموات. فنرى كيف كان محاربو “جزر التيمور” العائدين من انتصاراتهم على العدو، محملين برؤوس أعدائهم المقطوعة، يقومون بتقديم الآضاحي لتهدئة أرواح أعدائهم، فيطلبون منهم الغفران بقولهم “لا تغضبوا منا، فلربما كنا مكانكم. ولو لم يبتسم الحظ لنا وانتصرنا، لكانت رؤؤسنا اليوم هي مكان رؤوسكم، لذا نقدم لكم هذه الآضاحي لتهدئة أرواحكم، فاقبلوها وكونوا مسرورين واتركونا نعيش بهدوء وسلام.” ثم يبدأ المحاربون بالبكاء على أعدائهم ويرددون “لماذا كنتم اعداءنا؟ ألم يكن بامكاننا البقاء أصدقاء؟ كي لا يهدر دمكم ولا تقطع رؤؤسكم”؟

بوسعنا القول ان تبجيل الأرواح آت من مشاعر الخوف والرعب من انتقام أرواح الأعداء المقتولة. إلا ان الزمن كفيل في اطفاء الأسباب التي أدت إلى اكتساب المفاهيم عند جماعة ما، فنرى تحريم قتل الإنسان بشكل عام في الوصايا الدينية ولا نرى تحريم قتل الكائنات الحية الأخرى وذلك لعدم خشية الإنسان من انتقام أرواحها، فالإنسان احتكر الأبدية له خصيصا. وذلك لأن معاييرنا الأخلاقية جاءت خشية وليست سمواً ولهذا يتوجب تفكيكها والعودة إلى أصل التحريم لفهم البناء وتعديله أيضاً.

إن هذا الخوف الأول الذي خلق التابو المولود من أرضية تزاحم وعراك المشاعر مع بعضها كانت ولادته من معارضة الالم الواعي والاكتفاء اللاواعي ليشكل انعطافة في قوانين أخلاق الجماعة.

وإذا غصنا في لاوعي الإنسان البدائي، نلاحظ اتجاهه لخزن التجارب الخارجية وتحويلها إلى حالات نفسية ومن ثم ربطها مع بطل معين أو قائد أو إله، لتجتمع سوية و من ثم تقوم في تشكيل رموز تعبيرية في اللاوعي، ليتم ارسالها فيما بعد إلى الوعي البشري عن طريق طرحها خارجاً. تبقى اشارة أخيرة وهي ان التابو مرتبط  ارتباطا مباشرا بقدرة الإنسان الواعية.

أنتقل الأن لدراسة تحريم العلاقات الجنسية بين أفراد العائلة الواحدة تعتبر من الركائز الأساسية للأخلاق الإنسانية، فبعد الاطلاع على دراسة لسبنسر وجيلين في نشوء النظام ال”ايكزوغامي” والذي رافق النظام الطوطمي، استطاعا التوصل إلى كيفية تقسيم القبائل لفرق للتزاوج، ففي المرحلة الأولى قسمت القبائل نفسها إلى فرقتين: الفرقة الأولى وتضم أولاد الأم الواحدة، وأخرى تضم رجال القبيلة ومن ثم يتم التزاوج بين هذه الفرق. كان الهدف من تقسيم القبائل إلى فرقتين، الحد من تزاوج الأخوة مع الأخوات، أما في مرحلة لاحقة فقد تطور مفهوم الحد لتقسم القبيلة ذاتها إلى أربع فرق للحد من تزواج الأهل والأولاد، أما في مرحلة متطورة فقد قسمت بعض القبائل نفسها إلى ثمانية فرق للحد من تزاوج ذوي القربى.

هذا النظام الايكزوغامي، وكما يظن فريدزر، حل مكان نظام الطوطم البدائي الذي كان يقوم على مبدأ فردي أي اختيار طوطم الطفل حسب الصدفة وذلك لجهل الأب في تلك الحقبة أبوته لأطفاله. فكان بدء الشعور بالحمل لدى الأم يدعوها كي تتأمل في أي حيوان أو نبات كانت تفكر به أو رأته أو اكلته، فالاعتقاد بتكاثر الحيوانات أو النباتات من خلال الإنسان كان سائدا انذاك، ومن هنا جاء تعليق فريدزر “ان الطوطمي هو حاصل هوية الانسان مع طوطمه”.

إذن، جاء النظام الايكزوغامي، وهو نظام الفرق، للتزاوج ليحل مكان الطوطمي الفردي البدائي في بعض القبائل أما عند القبائل الأخرى، فتداخل النظام الفردي مع نظام الفرق لتتبنى القبيلة النظام الطوطمي الجماعي، وعليه يمكننا القول ان النظام الطوطمي مهد للنظم الاجتماعية..

دعونا أيضا نعرج على نظرية داروين وعادات الحياة عند القرود العليا لمقاربتها فيما بعد بالإنسان البدائي الذي عاش ضمن جماعات متنقلة، فكانت غيرة الذكر الأكبر عمرا هي التي تحدد وتمنع الاختلاط الجنسي بين أفراد القبيلة. لهذا تؤكد بعض الدراسات على أن البشر قد عاشوا بدائيا ضمن مجموعات بشرية، فكان لكل رجل امرأته أو أكثر في آن واحد في حال امتلاك الذكر قوة جسدية كالغوريلا ليساعده ذلك في امتلاك عدة نساء، ليغار عليهن من القردة الأخرى. في حين يؤكد اكنيستون نظرية داروين في أسباب تحريم التزاوج وينسبها إلى العامل النفسي وهو غيرة الانسان ورغبته في السيطرة على زمام الأمور ليصبح هذا العامل مع مرور الوقت شكلاً قانونيا للتنظيم الاجتماعي بل ليصبح قانوناً واعياً.

أما فرويد وفرينكزي فقد استندا إلى تجارب سريرية، فبعد تحليلهما لظاهرة فوبيا الحيوان عند الأطفال توصلا إلى تفسير السبب الرئيسي لكراهية الأطفال لحيوان معين فالحيوان يمثل سلطة الأب. ومن هذه الفوبيا استمد فرويد حله في فك اللغز الطوطمي، كما ارتكز فيها على نظرية داروين مستنتجا ان طرد الأب الأول لأبنائه نم عن مشاعر غيرة انتابته على نسائه. وعند عودة الأبناء لاحقا للانتقام من أبيهم، تم قتل واكل الأب. إلا انه، وفي مرحلة لاحقة، بدأ العراك بين الأخوة لنيل النساء، ليصلوا إلى اتفاق وقناعة عبر اجيال لاحقة للحد من التزاوج ما بين الأخوة والأخوات من أجل الحفاظ على القبيلة.

إلا ان فرويد لم يفته أن يتطرق للشعور بالذنب الذي بدأ يتفاقم مع الأجيال من جراء عملية قتل الأب واكله والرغبة في المصالحة مع هذه المشاعر، مما دفع بهم إلى فصل الأب عن الطوطم لاحقا وإعطائه قوة لامحدودة وبالتالي نتج عنها أرضية مناسبة للأديان.

نرى عملية قتل الأب تتكرر في أساطير اغريقية عدة ك”كرونوس” ابن “جايا” الذي قتل اباه “اورانوس” في اسطورة “اوديب” التي الهمت التحليل النفسي في الخوض في تحليل هذه المشاعر.

فهل عبرت الأساطير عن ذكريات قديمة بقيت آثارها في لاوعينا؟

لقد اعتبر افيمير أن الشخصيات الأسطورية كانت في الواقع شخصيات مميزة تواجدت في تلك الازمنة إلا ان البشر قاموا بتضخيمها وتبجيلها لأنها خرجت عن المألوف الفهمي آنذاك.

لا يمكننا نسف أية نظرية بكاملها بل نستطيع تصحيح بعض من تفاصيلها لإيجاد التقاطعات بين أضدادها شرط أن تكون قواعد جميع النظريات مرتكزة على أساس علمي ومبتعدة عن الرغبات الإنسانية المتكررة في إيجاد قناعات لتخليد النفس البشرية.

لهذا أعتقد أن جميع النظريات العلمية صالحة بعد التعديل، وهذا هو دور الأجيال المتجددة للقيام بهذه المهمة استنادا إلى كل ما سبقنا، ذلك ان التاريخ عامر بالكلمات والعبارات والاساطير المختزلة في تجارب وملاحظات وخبرات غنسانية، فلا نستطيع رميها في القمامة بحجة وجودنا في زمن تقدم عليهم علمياً وفكرياً واخلاقياً، لهذا علينا أن نعيد الترتيب والتصحيح فلولا التابو والطوطم والخرافة والآلهة لما استطعنا الانتقال إلى مرحلة جديدة.

المصدر : نظرة انتربولوجية لمنبع الأخلاق

الصفحة : 1 – 2 – 3 – 4 – 5